الحلقة الأولى
قف أيها الفلسطيني وتذكر قادتك
الذين طعنوك في الظهر. راجع كل حساباتك، منذ التوقيع على اتفاق أوسلو، وما نتج عنه
من مهازل يندى لها جبينك. تذكر جميع أشكال فساد قادتك السياسي والمالي والإداري
والأخلاقي التي لم تتوقف منذ قدومهم إلى الوطن عام 1994 إلى يومنا هذا. تذكر
المفاوضات السياسية العبثية، قم بإحصاء عدد شهدائك وجرحاك وأسراك، وبيوتك المهدمة
وأرضك المصادرة، وحجم خسائرك المادية والمعنوية، تذكر قيام إسرائيل باقتحام مدن
الضفة الغربية، وإقامة جدار الفصل العنصري، وتسميم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات،
تذكر أن المتآمرين على تسميمه لا يزالون أحياء، ولم يقدموا إلى المحاكمات، رغم أن
أسماءهم جرى تداولها، تذكر الانقسام الفلسطيني، والمناكفات بين حركتي فتح وحماس،
والحديث الزائف عن المصالحة بين الحركتين.تذكر أيها الفلسطيني أن قضيتك تعيش حالة
تراجع رهيبة، وأن قادتك قد أوصلوك إلى حافة الهاوية، ويريدونك أن تيأس وتستسلم
وتترك لهم الجمل بما حمل وتغمض عينك عن مخازيهم ومهازلهم، لكي يمعنوا في غيهم
واستسلامهم.
تذكر أيها الفلسطيني العدوان
على قطاع غزة، وفضيحة لجنة غولدستون، تذكر أن ذئاب اللجنة الرباعية، تقف مع قادتك
في نفس خندق الأعداء، وهدفهم واحد، هو قبولك بالاستسلام الكامل مقابل الرشاوى
السياسية والمالية التي تدفع لهم. أنت تقف الآن في مفترق طرق، اتجاه يقود
إلى القتل والمذابح، وآخر إلى الفساد والفضائح، وأمامك طريق مغلق يفضي إلى
الاستيطان المستمر. تذكر أن من يقود مركبتك شخص ينتمي إلى بقايا المحنطين في منظمة
التحرير، الذين تعودوا على الهزيمة والفساد، ووظيفتهم المحافظة على مكاسبهم
الشخصية، على حسابك أنت، وحساب قضيتك الفلسطينية.
أين تقف أيها الفلسطيني اليوم
في ظل هذه الفوضى؟
أسئلة كثيرة تواجهك ولا تعرف أن
تجيب عليها، وربما أنت تعرف ولكنك لا تريد مواجهة ذاتك، أنت تعلم و لكنك مهزوم، لم
يهزمك الاحتلال بل قادتك ، وأنت تهزم نفسك بنفسك. إن سألتك: هل تعتقد أنك كبش فداء
في كل مصيبة حدثت في هذا الوطن؟ تجيب نعم، ولكن لا تفعل شيئا، وتقبل أن تبقى
مهزوما. إن سألتك: هل مرة فكرت بكل ما جرى لك؟ وتجيب نعم. أنت تعرف كل شيء عن صفقة
شركة "الوطنية موبايل" التي يمتلكها أحد أبناء الرئيس والتي بسببها
أسقطت السلطة شكواها إلى محكمة لاهاي، ولم يرحل الملف من مجلس حقوق الإنسان في
جنيف إلى مقر مجلس الأمن بنيويورك؟ بموجب هذا الإجراء الخياني ضاعت حقوق الشهداء
والجرحى والمتضررين من جراء العدوان الإسرائيلي على غزة؟ فماذا فعلت؟
هل تصدق شعار الدولة الفلسطينية
المستقلة؟ وتجيب لا.
هل تصدق أن ثوار
أوسلو قادرون على تحقيق أحلامك في الحياة الكريمة؟
هل تصدق أن القدس
ستكون عاصمتك؟
هل تصدق أن السلطة
ستسيطر في يوما ما على الحدود والمعابر، ومصادر المياه، وسيكون لها ميناء وستتمكن
من تحقيق عودة النازحين واللاجئين؟
هل تصدق أن الفساد
سيمحى من دوائر وأجهزة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، وأن السلطة ستحاكم
الفاسدين، وتستبدلهم بأشخاص يتمتعون بالنزاهة؟
هل تصدق كذبة
المصالحة بين حركتي فتح وحماس؟
هل تصدق أن السلطة
لديها بديل آخر غير الخضوع لإسرائيل؟
هل سمعت يوما عن
نتائج صدرت عن عشرات لجان التحقيق التي شكلتها حول الكثير من القضايا السياسية
والأمنية وجرائم الفساد؟
هل تصدق مزاعم
التحضير للانتخابات؟
وتجيب لا على كل
هذه الأسئلة.
إذن، ماذا تنتظر؟
وتجيب بكل صراحة
وذل بأنك تنتظر راتبك الشهري المتدني، الذي يتبخر في أول أسبوع أو أسبوعين، أنت
تخشى أن يغضب عليك المسؤول إن تنفست بحرف، وتفقد عملك. أنت أيها المواطن الفلسطيني
جبان، وقد جمدت تفكيرك في راتبك الضئيل، وخوفك المزمن من أن تفقد عملك، وبقيت سجين
قوقعتك، وعبد راتبك وخوفك.
استمع لما أقول. قبل
ثمانية عشر عاما، أي عام 1994، عاد إخواننا من منظمة التحرير الفلسطينية إلى الضفة
الغربية وقطاع غزة، وفق اتفاق أوسلو الذي سمح لنفر من القياديين بالعودة، بعد أن
قدموا تنازلات سياسية، كان بعضها علنيا وبعضها بقي سريا، أنت استقبلتهم كثوار
عائدين ، رفعت العلم الفلسطيني وأنشدت الأهازيج، غنيت وطربت، ابتهجت واحتفلت،
استمعت إلى الخطابات وصدقتها.
عاد بضعة
آلاف لا يزيدون عن ثلاثين ألفا، من أصل سبعة ملايين فلسطيني تشتت أجدادهم وأباؤهم
في أصقاع الأرض منذ عام 1948. قالوا: إنهم الفوج الأول من العائدين، والفوج ستتبعه
أفواج النازحين منذ هزيمة عام 1967، فلا عاد نازحون ولا لاجئون, بل قدم فريق من
"الفوج الأول" ومن حالفه من أبناء الداخل تنازلات مجانية واستعدادا
للتخلي عن عودة اللاجئين، وتناسوا أنهم لم يحققوا حتى هدف عودة النازحين.
لم تحتج أيها
المواطن.
عادوا بعد أن وقع
هذا الفريق على اتفاق يرهن اقتصادك ومصيرك بأيدي الاحتلال. والآن، بعد ثمانية عشر
عاما، لا تعلم إلى أين تمضي؟ ولا أي طريق تسلك؟ أنت مثل خشبة تتقاذفها أمواج البحر
في كل اتجاه. أنت في حيرة من أمره.
وإني أسالك: أما جاء الوقت أيها الفلسطيني لتحاسب المسؤولين عن ضياع مستقبلك،
واستشهاد ابنك، وهدم بيتك، ومصادرة أرضك، وخداعك، وسرقة مالك والمتاجرة بدمائك،
وشهدائك؟
ألم يأت الوقت لكي تنهض من نومك. انهض أيها الفلسطيني اصح من نومك، تذكر وحاسب
من باعوا دمك بتخصيص موجات بث لشركة "الوطنية موبايل". نعم لقد قبضوا
ثمن شهدائك وأسقطوا الدعوى القضائية المرفوعة لدى المحكمة الدولية في لاهاي،
وقاموا بتبرئة مجرمي الحرب مقابل الترخيص، لشركة ممولة من قبل مركز الاستثمار
الفلسطيني وأحد أبناء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، باعوا دمك لقاء مئات
ملايين الدولارات تصب شهريا في صندوق الاستثمار مقابل إسقاطهم للدعوى. وهددت
إسرائيل شركة "الوطنية موبايل" إن لم تسقط الدعوى ستخسر الشركة مئات
الملايين من الدولارات، لتعويض رجال الأعمال الإسرائيليين على استثماراتهم في
البنية التحتية لشبكة الاتصالات. مقابل ذلك سحبت الدعوى ضد ضباط إسرائيليين بتهم
ارتكاب جرائم حرب أثناء حرب غزة، عام 2008. والذين اشتكوا لدى المحكمة هم الذين
حثوا إسرائيل على تشديد الضغط على حركة حماس وتدمير سلطتها.
انهض أيها الفلسطيني وقاوم
الحكم الذاتي الذي يخلو من أي شكل من أشكال السيادة على الأرض والمصادر الطبيعية
والحدود والتجارة وحركة الناس والبضائع وأمن المواطن ومصيره ومستقبله.
___________________________________________________
عودة الثوار إلى الوطن
سري نسيبه : مراوغ من أوسلو
___________________________________________________
الحلقة الثانية
عادوا إلى أرض الوطن ليحضنهم ، واعتقد بعضنا أن "نضالهم" جزء لا يتجزأ من نضالنا، وأنهم جناح الثورة في الخارج، ونحن جناحها في الداخل، وأن نسر الثورة سيطير ويحلق بجناحيه عاليا في سماء المجد، ويحط في الوطن، وسنتمكن من إنشاء دولتنا الفلسطينية المستقلة، الخالية من الفساد والمفسدين.
عاد إخواننا، بعد حروب أهلية ومآسي وانكسارات في الأردن ولبنان، مسحنا جراحهم، وشددنا من عزائمهم، كان اتفاقهم مع الأعداء مذلا، وقال بعضنا بمرارة: معهم حق، لقد خذلتهم الأنظمة العربية، سنشد على أياديهم، ونحول اتفاق الذل في أوسلو، بوحدتنا وحرصنا على تطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة إلى اتفاق يحفظ حقوقنا.
لم نكن نعلم - بكلام أكثر دقة، لم تكن الغالبية العظمى من أبناء شعب فلسطين تعلم - أن قادتنا الثوار فاسدون حتى نخاع عظامهم، وقرونهم تطال الغيوم، وبطونهم منتفخة كالبراميل التي تحفظ فيها أسماك السردين، مخادعون وكاذبون، زعماء فهلويون، يفعلون عكس ما يقولون، ويأكلون المال الحرام، ويظلمون الناس، خُدعنا بخطاباتهم وبياناتهم، صدقنا وعودهم وشعاراتهم عن الثورة وتحرير الأرض والإنسان، وحلمنا بفلسطين المحررة، ووطن الكرامة والحرية، وقبل أن يعودوا إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، بأكثر من عقدين، ناضلنا وسجنا، وهدمت سلطات الاحتلال الكثير من منازلنا ومصانعنا ومزارعنا ومساجدنا، صودرت أراضينا وأقيمت عليها المستوطنات، كانت حياتنا ضنكا، بلا كرامة، ولا حرية، ففاض كيلنا وفجرنا انتفاضتنا الأولى.
عاد إخواننا وقالوا: كفاكم قتالا، سنحرر البلاد وننقذكم مما انتم فيه بلا قتال، ولا تضحيات، اقعدوا في بيوتكم واستريحوا، ونحن نجلس ونتفاوض نيابة عنكم، وعن كل شعبنا، فجلسوا و"تمرمطوا" بل "تشرمطوا" على حساب القضية، عذبوا أنفسهم وعذبونا معهم، وكانت النتيجة شيوع الفساد في مؤسسات الحكم الإداري بقيادة الثوار السابقين ومن والاهم الذين خانوا ونسقوا أمنيا مع الاحتلال، وفشل الثوار في انتزاع أي حق من حقوقنا، بل قدموا تنازلات مجانية، آملين أن يعطف عليهم الاحتلال، ويمنحهم بعضا من الصلاحيات، فأعطاهم صلاحية التعالي على شعبهم، ونهبه وقمعه، تحالف ثوار اوسلو مع بعض أبناء الداخل الذين كانوا فاسدين مثلهم، لكنهم سقطوا في مستنقع الفساد ونهبوا البلاد وتمزقت قلوبنا، وذهبت نفوسنا هباءً ، ولما سقطوا في الهاوية، سقطنا معهم.
سقط هؤلاء الذين يسمون أنفسهم ثوارا ومناضلين، وهوت هيبتهم إلى الحضيض، سقطوا عندما أقاموا كيانا فاسدا، خائنا، متعاونا مع الاحتلال سياسيا وأمنيا ضد أبناء شعبهم، سقطوا عندما اعتمدوا على مؤسسات خاوية على عروشها وفاسدة، وتهافتوا عندما أماتوا العزيمة في قلوب أبناء شعب فلسطين. انزلقوا إلى درب الخطيئة عندما انضموا إلى معسكر الأعداء.
هذه هي حكايتهم، حكاية نذالة ومهزلة ضياع، نُسجت من خيوط الهزيمة، والمؤامرة، أبطالها رجال مهزومون هاماتهم منكسرة، أذلاء ومهزومون. كنت واحداً من هؤلاء الآخرين وكنت من الداخل واسمي أحمد الدهمان، ولي قريب ليس بأفضل مني اسمه ساري حبيبه، وابن عمي هذا.....
___________________________________________________
الحلقة الثالثة
يسبغ الكثيرون على هذا الرجل الذي يظهر في الصورة ألقابا كثيرة تعكس قدرا كبيرا من التبجيل والإعجاب به ، وهو من مواليد عام 1949، أي بعد نشأة إسرائيل بعام واحد، فهو في نظرهم بروفيسور ومفكر وفيلسوف وقيادي وخريج جامعتي هارفارد وأكسفورد
إنه د. سري نسيبه، أحد أبناء أسرة مقدسية تعود أصولها إلى قبيلة الخزرج.
وهو بطل إسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، فهو يدافع عن إسقاط حق عودة اللاجئين من أجل الحصول على حق العيش في حرية واستقلال. وكأننا سنحصل على الحرية والاستقلال، إن أسقطنا حق العودة. وهذا قول مراوغ، يريد إسقاط حق العودة قبل أن نحصل على حقنا أن نعيش بحرية واستقلال، ويقترح أن تكون أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة مأوى للفلسطينيين في الشتات، وهو كهدية مجانية للاحتلال قدمها خلال لقاء أثينا في 19 حزيران 2002 بالاشتراك مع عامي أيالون الرئيس السابق لجهاز الشاباك.
يقول نسيبه في معرض دفاعه عن إسقاط حق العودة:
'لدينا اثنين من حقوق ، ونحن نملك حق العودة ، في رأيي ، ولكن لدينا أيضا الحق في العيش في حرية والاستقلال ، وكثيرا جدا في حياة واحدة والتخلي عن تنفيذ حق واحد من أجل أن تكون قادرة على تنفيذ الحقوق الأخرى ، وفي هذه الحالة فإنه من الواضح جدا بالنسبة لي أننا سوف تضطر الى التخلي عن تنفيذ حق العودة من اجل ان نكون قادرين على خلق إمكانية تحقيق حقنا في العيش في حرية.... و لم يتم تحقيق العدالة الكاملة ، ولكن العملية هي العدالة ، وهذا هو ما هو ممكن".
لكنه في الوقت ذاته، نال قدرا كبيرا من النقد الشديد لمواقفه وأفكاره، وخصوصا من أبناء جلدته، وسيرة حياته، هي سيرة مثقف فلسطيني يسبح ضد التيار في كل شيء، قد يرى البعض أن السباحة ضد التيار أمر مستحب وجيد، ولكنها سباحة خطرة ومتنكرة للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
قرأت آخر مقالة له في شهر نوفمبر العام الماضي، وهي بعنوان "الكنفدرالية:التبصر والهلع"، وفيها يدافع عن علاقة كنفدرالية بين فلسطين وإسرائيل، ورغم أن موضوعي هو الشخص نفسه، وليس مقالته، إلا أن هذه المقالة التي كتبها تعكس طبيعته المشاكسة إلى درجة الاستهتار بعقل الآخر، وهي طبيعة لا أريد أن أحسده عليها، فهو ينجح في استفزاز الآخر بل يسخر من طريقة تفكيره، وكأن كلامه خال من الثغرات، رغم أنني لا أريد أن أحلل بعمق أفكاره في مقالته، بيد أني أود أن أستخدمها، كأداة للدخول إلى أسلوبه في المراوغة، لكي يظهر نفسه، وكأنه الشخص الفذ الذي يتمتع بحكمة فريدة.
هذا الشخص الفذ الذي ينظر إلى الكنفدرالية من الناحية النظرية على أنها علاقة تربط بين كيانين سياسيين، ينفرد كل منهما عن الآخر بخصوصيات، وتربطه بها خصوصيات، وأنه يريد استبدال الاحتلال بالكنفدرالية.
يسعى إلى كنفدرالية بين كيانين غير متجانسين وغير متساويين، أحدهما الكيان الأول القوي والمهيمن وهو دولة إسرائيل المغتصبة، والثاني هو كيان إدارة ذاتية خاضعة لقوة الاحتلال ومجبرة على التنسيق الأمني معه، لقمع أي مقاومة ضد استمرار وجود الاحتلال. فالكنفدرالية التي يتحدث عنها هذا الرجل هو كنفدرالية بين ذئب وغزال، وهي لن تتم أبدا في الواقع، وإن تمت فإنها ستنتهي بأن يصبح لحم الغزال طعاما شهيا على مائدة الذئب.
سري نسيبه: منظر الاتجاه المعاكس
ينظر البعض إلى أ.د. سري نسيبه، رئيس جامعة القدس، سواء كان ذلك عن قناعة أو نفاق، على أنه مفكر، وبروفيسور، وفيلسوف وقيادي وخريج جامعتي هارفارد وأكسفورد، وأن أفكاره ستنقذ السفينة الفلسطينية من الغرق في بحر الظلمات، فإن لم يسارع الفلسطينيون إلى تبني أفكاره، ستغطس شمسهم في هذا البحر، وتكون النهاية المأساوية لقضيتهم، في الوقت ذاته، يصب عليه الكثيرون كماً هائلا من الإدانة عندما يصفونه بأنه فيلسوف التنازلات السياسية المجانية، وداعية الخضوع للأمر الواقع، ومتعال على شعبه، وأداة خطرة في يد أعداء الشعب، ومنظر الاتجاه المعاكس، وذلك لجرأته في طرح أفكار غير مألوفة، تتناغم مع أفكار الإسرائيليين والغربيين، متحديا الرأي العام العربي والفلسطيني، والحقائق التاريخية.
في أمور المجتمع، أ.د. نسيبه علماني يزعم أنه متنور، بطريقة متهورة ومشاكسة للقيم الدينية السائدة في المجتمع، من الواضح أن "أنواره" ليست على طريقة مفكري الثورة الفرنسية، فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو الذين انتقدوا الملكية المطلقة وامتيازات النبلاء وتعصب رجال الدين، بل إن أ.د. نسيبه، لا ينتقد أبدا في كتاباته التفاوت الاجتماعي، وفساد وتسود وفساد العائلات الارستقراطية على بقية المجتمع، ولا الظلم التاريخي الذي أصاب الشعب الفلسطيني منذ اتفاقية سايكس بيكو، بل يتبنى مواقف وحلول الأعداء المتنكرين للحقوق الفلسطينية، والمعادين للثقافة العربية الإسلامية والمسيحية.
سمعته مؤخرا يغمغم في شريط مسجل، حصلت عليه من صحفية فرنسية، ويقول: "لازم يطلعوا قانون لمنع هادا الإشي" أي لمنع رفع صوت الأذان، وهو يستمع إليه منطلقا بقوة في الفضاء الأثيري من مسجدين في بيت حنينا، يدعو الناس إلى الصلاة ، ما أجبره على التوقف عن الحديث، أثناء لقائه بصحفية فرنسية.
للتذكير، في ديسمبر/ كانون أول عام 2011 تقدمت أنستاسيا ميخائيلي، إحدى نائبات الكنيست الإسرائيلي من حزب إسرائيل بيتنا اليميني المتشدد باقتراح لمنع رفع صوت الأذان في المساجد الفلسطينية عبر مكبرات الصوت، استنادا على أنها تزعج المستوطنين اليهود كل يوم، خاصة في صلاة الفجر. في المقابل، عبر رئيس الكنيست الإسرائيلي روبي ريفلين عن استيائه من اقتراح القانون، خشية أن يؤدي لحرب أساسها ديني. إنها مجرد غمغمة من جوف عقله الباطن، وليست موقفا ثابتا ومعلنا وصادرا عنه، فلا لوم ولا تثريب عليه.
في السياسة، له وجهة نظر تجمع الضدين في نفس السطر، وهما بكلماته، وكلمات الرئيس السابق لجهاز الشين بيت وقائد البحرية عامي أيالون، "الحلم الفلسطيني بدولة ديمقراطية قابلة للبقاء والحلم الصهيوني بوطن يهودي ديمقراطي". نشر ذلك السطر في مقال في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، في إطار حملة الترويج لإسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
كرئيس للجامعة، لا يختلف نسيبه عن أي رئيس عربي يلتصق بكرسيه، فيصبح الكرسي جزءا منه، ويرتكب من أجل بقاءه على الكرسي موبقات اتخاذ القرارات الاستثنائية وتعطيل الأنظمة والقوانين في الجامعة- كما سبق وذكرنا بالتفصيل في مقالة التحقيق الثانية-تماما كما يفعل رئيس عربي يفرض أنظمة الطوارئ على شعبه.
يحتل أ.د. نسيبه موقع رئاسة الجامعة منذ عام 1995، أي ثلاث فترات متتابعة خلافا لقوانين وأنظمة الجامعة التي تسمح للرئيس بالبقاء في منصب الرئاسة أربع سنوات ويجدد له عام آخر عند الضرورة ، فهل بقاؤه في منصبه، له صلة باتصالاته الدولية مع ذوي النفوذ في بريطانيا والولايات المتحدة، أم بآرائه، المثيرة الجدل والتي تلقى استحسان أهل الحل والعقد في الدول الغربية وإسرائيل؟ وهل انتماؤه لأسرة مقدسية عريقة يبرر جلوسه على كرسي الرئاسة لسبعة عشر عاما، وكأن الجامعة ملكا من أملاك أسرته؟
فإن لم يكن هذا السبب أم ذاك، فلماذا تبقيه السلطة في هذا المنصب، ولماذا لم يتحرك مجلس أمناء الجامعة طيلة هذه السنوات لإقالته من منصبه؟ هل ينتظر رئيس مجلس الأمناء السيد أحمد قريع إذنا من الرئاسة، للعمل على إقالته؟ وهل يتعرض الرئيس أبو مازن لضغوط دولية تمنعه من إقالته؟ وهل سيورث أ.د. نسيبه منصبه لابنه جمال الذي يشغل منصب نائب الرئيس لشؤون القدس؟
أسئلة كثيرة لا أجد إجابات محددة لها ولا تفسيرا لها، سوى التماثل بين وضع رئاسة الجامعة ووضع رئاسة السلطة الفلسطينية. فكلاهما رئيسان غير شرعيان، بموجب القوانين، وكلاهما خاضعان لإرادة دولية، تريد أن تبقي على الأوضاع السيئة الراهنة للطلبة والأكاديميين في جامعة القدس، وكذلك للشعب الفلسطيني. يسعى طلاب الجامعة للحصول على شهادات تؤهلهم للدخول إلى معترك الحياة، ولكن معظمهم يصطدمون بواقع مرير يحول بينهم وبين تحقيق أحلامهم في الحياة الكريمة، وهم جزء من الشعب الفلسطيني الذي يعيش مأساته بكل أبعادها، شعب يسعى لحرية وكرامة واستقلال، وعيش كريم، فلا يحصل على أي شيء سوى الذل والاحتلال والسلطة الفاسدة المتسولة، الخاضعة للاحتلال وسياسات الغرب الماكرة، التي تضع إسرائيل وأمنها في أولويات اهتماماتها، وتترك للفلسطينيين فتات اتفاقيات هزيلة، غير قابلة، برغم هزالها للتطبيق.
الطريق إلى التغيير مسدود، وفقد الشعب البوصلة، وكذلك طلبة الجامعة، والهمم نائمة، والذئاب تسرح وتمرح في الميادين، دون رادع، المشكلة تكمن في روح الجبن والهزيمة لدى طلبة الجامعة وأساتذتها وموظفيها وكوادرها، ومجلس أُمنائها الذين لا يثورون على أوضاعهم ويوقفون هذه المهزلة، كأنهم قطيع من الأنعام، لا حول لهم ولا رأي، لا يستطيعون محاسبة الرئيس، لا يتصدون لقراراته ، لا يرغمونه على الالتزام بالقوانين والأنظمة، رغم أن كثيرين منهم يشهدون بأُم أعينهم سوء الإدارة والفردية في اتخاذ القرارات، ولكنهم يحجمون عن القيام بحملة لتنحيته عن مقعد الرئاسة. ويصمتون، فلماذا يحجمون ويصمتون؟
هل يصمت مجلس الأمناء لأنه مجلس من الإمعات لا حول له ولا قول له؟
هل يصمت الأكاديميون لأنهم يخشون أن يفقدوا الراتب والوظيفة؟
هل يصمت الطلبة لأنهم منقسمون على أنفسهم، أو يخضعون لسيطرة المليشيات الطلابية المرتبطة بالأجهزة الأمنية؟
نعم، مجلس الأمناء يصمت لأن أعضاءه إمعات وبيادق على لوحة شطرنج، لا يتحركون، بل يحتاجون إلى من يحركهم، ومن يحركهم غير السلطة الفلسطينية ورئيسها الذي لا يسمع صيحات المطالبين بالإطاحة بـ أ.د. نسيبه. والأكاديميون والعاملون في الجامعة يصمتون أيضا، لأن بعضهم جزء من العصابة الحاكمة، والآخرون عبيد الراتب والوظيفة.
والطلبة يراقبون، بعضهم لا يسمع ولا يرى، وبعضهم متورط بالحصول على امتيازات أو مال من الفاسدين في الجامعة ، وبعضهم غارق في مشاكله، والمحصلة النهائية هي الجمود والتقاعس، يصيح صوت هنا مطالبا بألا يرسل أي دعم، طالما لا توجد نية لإصلاح مالي أو إداري، أكاديمي يكتب بيانا تحت اسم مستعار، أليس من العار على حسن الهلالي أن يكتب بيانات يتهم فيها أ.د. نسيبه بأنه الفرعون الصغير في الجامعة، ولا يجرؤ على المجاهرة باسمه. ما هذا الخوف الذي يجتاح الطلبة والأكاديميين ويجعلهم لا يتحركون بطريقة منظمة. أيخشون فريق المليشيات الطلابية، الذين لهم مصالح ببقاء وتسود نظام وقانون أ.د. نسيبه الاستثنائي على حساب تعطيل أنظمتها وقوانينها؟.
صورة الوضع في الجامعة صورة مصغرة عن الصورة المكبرة للوضع الفلسطيني العام، بل مرتبطة به ارتباطا وثيقا، والسيد أ.د. نسيبه حلقة الوصل بين الصورتين. لو تأملنا وفكرنا بما يجمع بين طلبة وشعب، نجد أن الصمت عنصر رئيس جامع ، أقصد هنا صمت الفلسطينيين على بقاء الرئيس عباس في مقعد الرئاسة، رغم انتهاء فترة رئاسته، وصمتهم على التنازلات المجانية التي قدمتها السلطة لإسرائيل منذ قدومها، على أمل أن تفوز بجائزة إقامة دولة فلسطينية منزوعة من السلاح، وممسوكة كفأر في مصيدة الاحتلال، وبلا صلاحيات سيادية على الأرض والإنسان،.
أين شرفاؤك أيها الشعب الفلسطيني؟ إن صمت الطلبة ومجلس أمناء الجامعة ومجلسها الأكاديمي على استمرار إدارة السيد أ.د. نسيبه لا يختلف عن صمت الشعب وصمت الكوادر الفلسطينية في منظمة التحرير بشأن العديد من التنازلات الكبيرة، والعديد من الفضائح وجرائم الفساد، والجرائم الأمنية، وعلى رأسها اغتيال الرئيس ياسر عرفات بالسم.
وتتكامل الصورة في مأساويتها عندما نجد أن السيد أ.د. نسيبه هو حلقة الوصل بين الصورتين. فهو كرئيس للجامعة، يعزف أنغام حالات الاستثناء، وكـ "شخصية وطنية" يمعن في تقديم التنازلات المجانية. والقائمة طويلة: إسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين. يقول نسيبه في لقاء أجراه موقع القنطرة: "شخصياً أعتقد أن عودة اللاجئين حلم لا يمكن تحقيقه في المستقبل القريب. أولاً، لا يمكن تحقيقه من ناحية أن يعود اللاجئ إلى البيت الذي أُخرج منه والداه أو أجداده. لقد دمرت معظم هذه البيوت ولكن هناك حق قانوني، الأمر الذي يعني أنه يجب أن يكون باستطاعتنا المطالبة بتعويضات، على سبيل المثال، أو نوع آخر من التعويض مقابل النفي".
مضيفا: "من وجهة نظري، يحتوي الحل كذلك على حقيقة أنه ستكون هناك دولتان وأنه سيكون بإمكاننا تعويض اللاجئين مادياً ومعنوياً من خلال تمكينهم مباشرة حياة جديدة بدلاً من القلق بأمر غير ممكن عملياً، كالعودة بالمعنى التقليدي. إذا أُريد حل مشكلة اللاجئين فسوف يتطلب ذلك من الإسرائيليين التضحية بشيء ما: كامل القدس الشرقية، وخاصة المدينة القديمة والمناطق المقدسة. وهذا سيكون الثمن لقاء التنازل عن حق العودة. أعتقد أن اللاجئين الفلسطينيين سيكونون على استعداد لتقديم هذه التضحية".
لن أسهب في الحديث عن تنازلات أ.د. نسيبه الأخرى مثل حديثه عن عسكرة الانتفاضة، ويعني بذلك وضع نهاية للمقاومة، فهل توقفت إسرائيل عن عنفها المستمر ضد الفلسطينيين حتى يتوقف الفلسطينيون عن عنفهم الذي يسميه أ.د. نسيبه إرهابا. ولن أتحدث مطولا عن شعوذته حول الكنفدرالية بين الكيان الفلسطيني والدولة العبرية.
يسعى نسيبه إلى إقامة كنفدرالية بين كيانين غير متجانسين وغير متساويين، أحدهما دولة إسرائيل الكيان القوي والمهيمن على فلسطين من البحر إلى النهر، والثاني هو كيان إدارة ذاتية على جزء صغير ومحتل من فلسطين، وهي كالإدارة المدنية التي كانت جزءا من الاحتلال بل أكثر سوءا لأنها إدارة سلطة مجبرة على التنسيق الأمني مع الاحتلال، لقمع أي مقاومة ضده. فالكنفدرالية التي يتحدث عنها أ.د. نسيبه هو كنفدرالية بين ذئب وغزال.
لن أتصدى لمثل هذه الاقتراحات، التي لا تجد أذنا إسرائيلية، ولا قلبا فلسطينيا، ولا عقلا دوليا، إنها أقوال في الهواء، الغرض منها تخريب الموقف الفلسطيني بتقديم حسن النوايا لإسرائيل، دون الحصول على مقابل مطلقا، ولا حتى على وعد من قبل الإسرائيليين، بأنه في حال أن الشعب الفلسطيني قدم مثل هذا التنازل عن حقه، سينال حقا آخر ثمنا لحق تنازل عنه.
المساومات على الحقوق لعبة قمار خاسرة تضعف الموقف الفلسطيني، وتجعله مشوشا، يركض لاهثا وراء سراب، لن يمسك بيده في نهاية المطاف غير السراب، فالحقوق لا يساوم عليها من نقطة الضعف بل تنتزع انتزاعا، والمفاوضات غير المسندة إلى قوة لن تؤدي إلى نتيجة لصالح الطرف الضعيف، بل على العكس تماما، والمفاوضون الفلسطينيون عندما يخوضون مفاوضات في إطار ميزان قوى مختل لصالح إسرائيل، إنما يسيرون إلى ساحة حتفهم، أقصد الساحة التي ستعدم فيها الحقوق الوطنية الثابتة، وإن لم يكن الشعب الفلسطيني قادرا على انتزاع حقه الآن، سيكون قادرا في المستقبل، ولكن البداية تكمن في التضامن والتخلص من الفاسدين والمساومين على الحقوق، وهذا ما تخشاه إسرائيل.
لو استمر المفاوضون الفلسطينيون في الركض خلف مهازل أوسلو، وهم يركضون ولا يتوقفون عن استجداء الحلول، فإنهم سيجدون أنفسهم واقفين أمام السد الصهيوني المتنكر للحقوق الوطنية الفلسطينية، وهم بالفعل وفي هذه اللحظات يقفون عاجزين أمام هذا السد. فلن تنفعهم سباحة المنظرين من أمثال أ.د. نسيبه في الاتجاه المعاكس، بل سيغرقون في اللجة العمياء، ويغرقون معهم الشعب الفلسطيني.
___________________________________________________
الحلقة الرابعة
الرئيسان
الرئيس محمود عباس: رئيس دولة فلسطين
انتهت
فترة رئاسته في نهاية يوم 8 يناير 2009
الصورة إلى يسار الصفحة، هي
لمهندس اتفاق أوسلو، ورئيس الوزراء السابق، والرئيس المنتخب منذ عام 2005
وحتى نهاية يوم الثامن من يناير عام 2009، ومنذ انتهاء صلاحية رئاسته في ذلك
التاريخ لا يزال رئيسا حتى يومنا هذا.
الصورة إلى يمين الصفحة هي للسيد سري نسيبه، رئيس جامعة القدس،
وفيلسوف التنازلات المجانية، وداعية للخضوع للأمر الواقع. عين رئيسا للجامعة عام
1995 ولا يزال رئيسها إلى يومنا هذا.
يجمعهما عشرة أُمور أو قواسم
مشتركة، منصب الرئاسة: رئاسة سلطة، ورئاسة جامعة، وانتهاء الفترة الزمنية
لرئاستهما، واستمرارهما في القيام بما يتطلبه منصباهما الرئاسيان رغم انقضاء أجل
المنصبين. هناك علاقة تشابه واضحة في وضعهما، فكل واحد منهما يتربع على كرسي الرئاسة،
بصفة استثنائية، نسيبه، "الشخصية الفذة"، لخلفيته الأكاديمية، وانتمائه
لأسرة عريقة، وعلاقاته الدولية، والثاني رئيس اضطر للبقاء في منصبه، للوضع
الاستثنائي الناجم عن قيام حركة حماس "بالانقلاب" عليه وسلخ قطاع غزة عن
منطقة نفوذه.
خامس الأمور الجامعة بين الرجلين: هو سعيهما للحصول على اعتراف.
الرئيس عباس يسعى جاهدا دون جدوى للحصول على عضوية لدولة فلسطين في الأمم المتحدة،
والثاني يسعى للحصول على اعتراف إسرائيل بشهادات جامعة القدس.
وسادسا: هو تعطيل عمل كل من المجلس التشريعي ومجلس أمناء الجامعة.
وسابعا....
وثامنا....
وتاسعا....
وعاشرا....
وهي أمور ترتبط بالأمن،
والفساد، واتخاذ القرارات الفردية، والتقارير السرية، يبقى الفرق بين وضعيهما هو
صورة مصغرة داخل صورة مكبرة، صورة لجامعة القدس كمؤسسة من مؤسسات السلطة الوطنية.
____________________________________________________
الحلقة الخامسة
سري نسيبه: منظر الاتجاه المعاكس
ينظر البعض إلى أ.د. سري نسيبه، رئيس جامعة القدس، سواء كان ذلك عن قناعة أو نفاق، على أنه مفكر، وبروفيسور، وفيلسوف وقيادي وخريج جامعتي هارفارد وأكسفورد، وأن أفكاره ستنقذ السفينة الفلسطينية من الغرق في بحر الظلمات، فإن لم يسارع الفلسطينيون إلى تبني أفكاره، ستغطس شمسهم في هذا البحر، وتكون النهاية المأساوية لقضيتهم، في الوقت ذاته، يصب عليه الكثيرون كماً هائلا من الإدانة عندما يصفونه بأنه فيلسوف التنازلات السياسية المجانية، وداعية الخضوع للأمر الواقع، ومتعال على شعبه، وأداة خطرة في يد أعداء الشعب، ومنظر الاتجاه المعاكس، وذلك لجرأته في طرح أفكار غير مألوفة، تتناغم مع أفكار الإسرائيليين والغربيين، متحديا الرأي العام العربي والفلسطيني، والحقائق التاريخية.
في أمور المجتمع، أ.د. نسيبه علماني يزعم أنه متنور، بطريقة متهورة ومشاكسة للقيم الدينية السائدة في المجتمع، من الواضح أن "أنواره" ليست على طريقة مفكري الثورة الفرنسية، فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو الذين انتقدوا الملكية المطلقة وامتيازات النبلاء وتعصب رجال الدين، بل إن أ.د. نسيبه، لا ينتقد أبدا في كتاباته التفاوت الاجتماعي، وفساد وتسود وفساد العائلات الارستقراطية على بقية المجتمع، ولا الظلم التاريخي الذي أصاب الشعب الفلسطيني منذ اتفاقية سايكس بيكو، بل يتبنى مواقف وحلول الأعداء المتنكرين للحقوق الفلسطينية، والمعادين للثقافة العربية الإسلامية والمسيحية.
سمعته مؤخرا يغمغم في شريط مسجل، حصلت عليه من صحفية فرنسية، ويقول: "لازم يطلعوا قانون لمنع هادا الإشي" أي لمنع رفع صوت الأذان، وهو يستمع إليه منطلقا بقوة في الفضاء الأثيري من مسجدين في بيت حنينا، يدعو الناس إلى الصلاة ، ما أجبره على التوقف عن الحديث، أثناء لقائه بصحفية فرنسية.
للتذكير، في ديسمبر/ كانون أول عام 2011 تقدمت أنستاسيا ميخائيلي، إحدى نائبات الكنيست الإسرائيلي من حزب إسرائيل بيتنا اليميني المتشدد باقتراح لمنع رفع صوت الأذان في المساجد الفلسطينية عبر مكبرات الصوت، استنادا على أنها تزعج المستوطنين اليهود كل يوم، خاصة في صلاة الفجر. في المقابل، عبر رئيس الكنيست الإسرائيلي روبي ريفلين عن استيائه من اقتراح القانون، خشية أن يؤدي لحرب أساسها ديني. إنها مجرد غمغمة من جوف عقله الباطن، وليست موقفا ثابتا ومعلنا وصادرا عنه، فلا لوم ولا تثريب عليه.
في السياسة، له وجهة نظر تجمع الضدين في نفس السطر، وهما بكلماته، وكلمات الرئيس السابق لجهاز الشين بيت وقائد البحرية عامي أيالون، "الحلم الفلسطيني بدولة ديمقراطية قابلة للبقاء والحلم الصهيوني بوطن يهودي ديمقراطي". نشر ذلك السطر في مقال في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، في إطار حملة الترويج لإسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
كرئيس للجامعة، لا يختلف نسيبه عن أي رئيس عربي يلتصق بكرسيه، فيصبح الكرسي جزءا منه، ويرتكب من أجل بقاءه على الكرسي موبقات اتخاذ القرارات الاستثنائية وتعطيل الأنظمة والقوانين في الجامعة- كما سبق وذكرنا بالتفصيل في مقالة التحقيق الثانية-تماما كما يفعل رئيس عربي يفرض أنظمة الطوارئ على شعبه.
يحتل أ.د. نسيبه موقع رئاسة الجامعة منذ عام 1995، أي ثلاث فترات متتابعة خلافا لقوانين وأنظمة الجامعة التي تسمح للرئيس بالبقاء في منصب الرئاسة أربع سنوات ويجدد له عام آخر عند الضرورة ، فهل بقاؤه في منصبه، له صلة باتصالاته الدولية مع ذوي النفوذ في بريطانيا والولايات المتحدة، أم بآرائه، المثيرة الجدل والتي تلقى استحسان أهل الحل والعقد في الدول الغربية وإسرائيل؟ وهل انتماؤه لأسرة مقدسية عريقة يبرر جلوسه على كرسي الرئاسة لسبعة عشر عاما، وكأن الجامعة ملكا من أملاك أسرته؟
فإن لم يكن هذا السبب أم ذاك، فلماذا تبقيه السلطة في هذا المنصب، ولماذا لم يتحرك مجلس أمناء الجامعة طيلة هذه السنوات لإقالته من منصبه؟ هل ينتظر رئيس مجلس الأمناء السيد أحمد قريع إذنا من الرئاسة، للعمل على إقالته؟ وهل يتعرض الرئيس أبو مازن لضغوط دولية تمنعه من إقالته؟ وهل سيورث أ.د. نسيبه منصبه لابنه جمال الذي يشغل منصب نائب الرئيس لشؤون القدس؟
أسئلة كثيرة لا أجد إجابات محددة لها ولا تفسيرا لها، سوى التماثل بين وضع رئاسة الجامعة ووضع رئاسة السلطة الفلسطينية. فكلاهما رئيسان غير شرعيان، بموجب القوانين، وكلاهما خاضعان لإرادة دولية، تريد أن تبقي على الأوضاع السيئة الراهنة للطلبة والأكاديميين في جامعة القدس، وكذلك للشعب الفلسطيني. يسعى طلاب الجامعة للحصول على شهادات تؤهلهم للدخول إلى معترك الحياة، ولكن معظمهم يصطدمون بواقع مرير يحول بينهم وبين تحقيق أحلامهم في الحياة الكريمة، وهم جزء من الشعب الفلسطيني الذي يعيش مأساته بكل أبعادها، شعب يسعى لحرية وكرامة واستقلال، وعيش كريم، فلا يحصل على أي شيء سوى الذل والاحتلال والسلطة الفاسدة المتسولة، الخاضعة للاحتلال وسياسات الغرب الماكرة، التي تضع إسرائيل وأمنها في أولويات اهتماماتها، وتترك للفلسطينيين فتات اتفاقيات هزيلة، غير قابلة، برغم هزالها للتطبيق.
الطريق إلى التغيير مسدود، وفقد الشعب البوصلة، وكذلك طلبة الجامعة، والهمم نائمة، والذئاب تسرح وتمرح في الميادين، دون رادع، المشكلة تكمن في روح الجبن والهزيمة لدى طلبة الجامعة وأساتذتها وموظفيها وكوادرها، ومجلس أُمنائها الذين لا يثورون على أوضاعهم ويوقفون هذه المهزلة، كأنهم قطيع من الأنعام، لا حول لهم ولا رأي، لا يستطيعون محاسبة الرئيس، لا يتصدون لقراراته ، لا يرغمونه على الالتزام بالقوانين والأنظمة، رغم أن كثيرين منهم يشهدون بأُم أعينهم سوء الإدارة والفردية في اتخاذ القرارات، ولكنهم يحجمون عن القيام بحملة لتنحيته عن مقعد الرئاسة. ويصمتون، فلماذا يحجمون ويصمتون؟
هل يصمت مجلس الأمناء لأنه مجلس من الإمعات لا حول له ولا قول له؟
هل يصمت الأكاديميون لأنهم يخشون أن يفقدوا الراتب والوظيفة؟
هل يصمت الطلبة لأنهم منقسمون على أنفسهم، أو يخضعون لسيطرة المليشيات الطلابية المرتبطة بالأجهزة الأمنية؟
نعم، مجلس الأمناء يصمت لأن أعضاءه إمعات وبيادق على لوحة شطرنج، لا يتحركون، بل يحتاجون إلى من يحركهم، ومن يحركهم غير السلطة الفلسطينية ورئيسها الذي لا يسمع صيحات المطالبين بالإطاحة بـ أ.د. نسيبه. والأكاديميون والعاملون في الجامعة يصمتون أيضا، لأن بعضهم جزء من العصابة الحاكمة، والآخرون عبيد الراتب والوظيفة.
والطلبة يراقبون، بعضهم لا يسمع ولا يرى، وبعضهم متورط بالحصول على امتيازات أو مال من الفاسدين في الجامعة ، وبعضهم غارق في مشاكله، والمحصلة النهائية هي الجمود والتقاعس، يصيح صوت هنا مطالبا بألا يرسل أي دعم، طالما لا توجد نية لإصلاح مالي أو إداري، أكاديمي يكتب بيانا تحت اسم مستعار، أليس من العار على حسن الهلالي أن يكتب بيانات يتهم فيها أ.د. نسيبه بأنه الفرعون الصغير في الجامعة، ولا يجرؤ على المجاهرة باسمه. ما هذا الخوف الذي يجتاح الطلبة والأكاديميين ويجعلهم لا يتحركون بطريقة منظمة. أيخشون فريق المليشيات الطلابية، الذين لهم مصالح ببقاء وتسود نظام وقانون أ.د. نسيبه الاستثنائي على حساب تعطيل أنظمتها وقوانينها؟.
صورة الوضع في الجامعة صورة مصغرة عن الصورة المكبرة للوضع الفلسطيني العام، بل مرتبطة به ارتباطا وثيقا، والسيد أ.د. نسيبه حلقة الوصل بين الصورتين. لو تأملنا وفكرنا بما يجمع بين طلبة وشعب، نجد أن الصمت عنصر رئيس جامع ، أقصد هنا صمت الفلسطينيين على بقاء الرئيس عباس في مقعد الرئاسة، رغم انتهاء فترة رئاسته، وصمتهم على التنازلات المجانية التي قدمتها السلطة لإسرائيل منذ قدومها، على أمل أن تفوز بجائزة إقامة دولة فلسطينية منزوعة من السلاح، وممسوكة كفأر في مصيدة الاحتلال، وبلا صلاحيات سيادية على الأرض والإنسان،.
أين شرفاؤك أيها الشعب الفلسطيني؟ إن صمت الطلبة ومجلس أمناء الجامعة ومجلسها الأكاديمي على استمرار إدارة السيد أ.د. نسيبه لا يختلف عن صمت الشعب وصمت الكوادر الفلسطينية في منظمة التحرير بشأن العديد من التنازلات الكبيرة، والعديد من الفضائح وجرائم الفساد، والجرائم الأمنية، وعلى رأسها اغتيال الرئيس ياسر عرفات بالسم.
وتتكامل الصورة في مأساويتها عندما نجد أن السيد أ.د. نسيبه هو حلقة الوصل بين الصورتين. فهو كرئيس للجامعة، يعزف أنغام حالات الاستثناء، وكـ "شخصية وطنية" يمعن في تقديم التنازلات المجانية. والقائمة طويلة: إسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين. يقول نسيبه في لقاء أجراه موقع القنطرة: "شخصياً أعتقد أن عودة اللاجئين حلم لا يمكن تحقيقه في المستقبل القريب. أولاً، لا يمكن تحقيقه من ناحية أن يعود اللاجئ إلى البيت الذي أُخرج منه والداه أو أجداده. لقد دمرت معظم هذه البيوت ولكن هناك حق قانوني، الأمر الذي يعني أنه يجب أن يكون باستطاعتنا المطالبة بتعويضات، على سبيل المثال، أو نوع آخر من التعويض مقابل النفي".
مضيفا: "من وجهة نظري، يحتوي الحل كذلك على حقيقة أنه ستكون هناك دولتان وأنه سيكون بإمكاننا تعويض اللاجئين مادياً ومعنوياً من خلال تمكينهم مباشرة حياة جديدة بدلاً من القلق بأمر غير ممكن عملياً، كالعودة بالمعنى التقليدي. إذا أُريد حل مشكلة اللاجئين فسوف يتطلب ذلك من الإسرائيليين التضحية بشيء ما: كامل القدس الشرقية، وخاصة المدينة القديمة والمناطق المقدسة. وهذا سيكون الثمن لقاء التنازل عن حق العودة. أعتقد أن اللاجئين الفلسطينيين سيكونون على استعداد لتقديم هذه التضحية".
لن أسهب في الحديث عن تنازلات أ.د. نسيبه الأخرى مثل حديثه عن عسكرة الانتفاضة، ويعني بذلك وضع نهاية للمقاومة، فهل توقفت إسرائيل عن عنفها المستمر ضد الفلسطينيين حتى يتوقف الفلسطينيون عن عنفهم الذي يسميه أ.د. نسيبه إرهابا. ولن أتحدث مطولا عن شعوذته حول الكنفدرالية بين الكيان الفلسطيني والدولة العبرية.
يسعى نسيبه إلى إقامة كنفدرالية بين كيانين غير متجانسين وغير متساويين، أحدهما دولة إسرائيل الكيان القوي والمهيمن على فلسطين من البحر إلى النهر، والثاني هو كيان إدارة ذاتية على جزء صغير ومحتل من فلسطين، وهي كالإدارة المدنية التي كانت جزءا من الاحتلال بل أكثر سوءا لأنها إدارة سلطة مجبرة على التنسيق الأمني مع الاحتلال، لقمع أي مقاومة ضده. فالكنفدرالية التي يتحدث عنها أ.د. نسيبه هو كنفدرالية بين ذئب وغزال.
لن أتصدى لمثل هذه الاقتراحات، التي لا تجد أذنا إسرائيلية، ولا قلبا فلسطينيا، ولا عقلا دوليا، إنها أقوال في الهواء، الغرض منها تخريب الموقف الفلسطيني بتقديم حسن النوايا لإسرائيل، دون الحصول على مقابل مطلقا، ولا حتى على وعد من قبل الإسرائيليين، بأنه في حال أن الشعب الفلسطيني قدم مثل هذا التنازل عن حقه، سينال حقا آخر ثمنا لحق تنازل عنه.
المساومات على الحقوق لعبة قمار خاسرة تضعف الموقف الفلسطيني، وتجعله مشوشا، يركض لاهثا وراء سراب، لن يمسك بيده في نهاية المطاف غير السراب، فالحقوق لا يساوم عليها من نقطة الضعف بل تنتزع انتزاعا، والمفاوضات غير المسندة إلى قوة لن تؤدي إلى نتيجة لصالح الطرف الضعيف، بل على العكس تماما، والمفاوضون الفلسطينيون عندما يخوضون مفاوضات في إطار ميزان قوى مختل لصالح إسرائيل، إنما يسيرون إلى ساحة حتفهم، أقصد الساحة التي ستعدم فيها الحقوق الوطنية الثابتة، وإن لم يكن الشعب الفلسطيني قادرا على انتزاع حقه الآن، سيكون قادرا في المستقبل، ولكن البداية تكمن في التضامن والتخلص من الفاسدين والمساومين على الحقوق، وهذا ما تخشاه إسرائيل.
لو استمر المفاوضون الفلسطينيون في الركض خلف مهازل أوسلو، وهم يركضون ولا يتوقفون عن استجداء الحلول، فإنهم سيجدون أنفسهم واقفين أمام السد الصهيوني المتنكر للحقوق الوطنية الفلسطينية، وهم بالفعل وفي هذه اللحظات يقفون عاجزين أمام هذا السد. فلن تنفعهم سباحة المنظرين من أمثال أ.د. نسيبه في الاتجاه المعاكس، بل سيغرقون في اللجة العمياء، ويغرقون معهم الشعب الفلسطيني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق