تحقيقاتٌ تُرهِبُ السلطانَ ولا تَرْهَبُهُ

تهافت سماسرة الأراضي والوطن

04‏/03‏/2012

الحلقة الثالثة - سري نسيبه: منظر الاتجاه المعاكس

ينظر البعض إلى أ.د. سري نسيبه، رئيس جامعة القدس، سواء كان ذلك عن قناعة أو نفاق، على أنه مفكر وبروفيسور وفيلسوف وقيادي وخريج جامعتي هارفارد 
وأكسفورد.
وأن أفكاره ستنقذ السفينة الفلسطينية من الغرق في بحر الظلمات، لو أن الفلسطينيين عادوا إلى رشدهم وفكروا بعقولهم، وتخلوا عن "إرهابهم".
 فإن لم يسارعوا إلى تبني أفكاره، ستغطس شمسهم في ذلك البحر
 وتكون النهاية المأساوية لقضيتهم، عندها سوف يلومون أنفسهم، ويقولون: لو عملنا بنصيحة المنظر أ.د. نسيبه، لما وصلنا إلى هذا الدرك الأسفل من الضياع.
في الوقت ذاته، يصب عليه الكثيرون من 
أعدائه اللدودين، الذين لم يكتشفوا بعد، عمق فكره وثراء تحليله، كماً هائلا من الإدانة عندما يصفونه بأنه فيلسوف التنازلات السياسية المجانية، وداعية الخضوع للأمر الواقع، ومتعال على شعبه، وأداة خطرة في يد أعداء الشعب، ومنظر
الاتجاه المعاكس، وذلك لجرأته في طرح أفكار غير مألوفة، تتناغم مع أفكار الإسرائيليين والغربيين، متحديا الرأي العام العربي والفلسطيني، والحقائق التاريخية.

في أمور المجتمع، أ.د. نسيبه علماني يزعم أنه متنور، ومتأثر بطريقة التفكير الغربية، وهي بلا شك، طريقة جديرة بدراستها في مجتمعاتنا، ولكن ليس بطريقة أ.د. نسيبه المتهورة والمشاكسة للقيم الدينية السائدة في المجتمع، من الواضح أن "أنوار أفكاره"  لا تضيء  كما أضاءت أنوار مفكري الثورة الفرنسية، فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو الذين انتقدوا الملكية المطلقة وامتيازات النبلاء وتعصب رجال الدين، وكانت إسهاماتهم في الحضارة الإنسانية كبيرة، على العكس من هؤلاء، فإننا نرى أن أ.د. نسيبه، لا ينتقد  أبدا فساد وتسود العائلات الارستقراطية على بقية المجتمع في فلسطين، ودورهم السلبي منذ العشرينات من القرن الماضي في تفتيت المجتمع وإضعاف تماسكه، بل والانقضاض على حركته الثورية في ذلك الوقت، وخصوصا حركة الشيخ عزالدين القسام.
ولا يتعرض أ.د. نسيبه للظلم التاريخي الذي أصاب الشعب الفلسطيني منذ اتفاقية سايكس بيكو، إلا بغرض الترويج  لمواقف وحلول الأعداء المتنكرين للحقوق الفلسطينية، والمعادين للثقافة العربية الإسلامية والمسيحية.

 سمعته مؤخرا يغمغم  في شريط مسجل، حصلت عليه من صحفية فرنسية، ويقول: "لازم يطلعوا قانون لمنع هادا الإشي" أي لمنع رفع صوت الأذان، وهو يستمع إليه منطلقا بقوة في الفضاء الأثيري من مسجدين في بيت حنينا، بالقدس، يدعو الناس إلى الصلاة ، ما أجبره على التوقف عن الحديث، أثناء لقائه بالصحفية الفرنسية.

للتذكير،  في ديسمبر/ كانون أول عام 2011 تقدمت أنستاسيا ميخائيلي، إحدى نائبات الكنيست الإسرائيلي من حزب إسرائيل بيتنا اليميني المتشدد باقتراح لمنع رفع صوت الأذان في المساجد الفلسطينية عبر مكبرات الصوت، استنادا على أنها تزعج المستوطنين اليهود كل يوم، خاصة في صلاة الفجر. في المقابل، عبر رئيس الكنيست الإسرائيلي روبي ريفلين عن استيائه من اقتراح القانون، خشية أن يؤدي لحرب أساسها ديني. إنها مجرد غمغمة من جوف عقله الباطن، وليست موقفا ثابتا ومعلنا وصادرا عنه، فلا لوم ولا تثريب عليه.

في السياسة، له وجهة نظر تجمع الضدين في نفس السطر، وهما بكلماته، وكلمات الرئيس السابق لجهاز الشين بيت وقائد البحرية عامي أيالون، "الحلم الفلسطيني بدولة ديمقراطية قابلة للبقاء والحلم الصهيوني بوطن يهودي ديمقراطي....". وقد نشر ذلك السطر في مقال في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004، في إطار حملة الترويج لإسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.

كرئيس للجامعة، لا يختلف نسيبه عن أي رئيس عربي يلتصق بكرسيه، فيصبح الكرسي جزءا منه، ويرتكب من أجل بقاءه على الكرسي موبقات اتخاذ القرارات الاستثنائية وتعطيل الأنظمة والقوانين في الجامعة- كما سبق وذكرنا بالتفصيل في مقالة التحقيق الثانية-تماما كما يفعل رئيس عربي يفرض أنظمة الطوارئ على شعبه.

يحتل أ.د. نسيبه موقع رئاسة الجامعة منذ عام 1995، أي ثلاث فترات متتابعة خلافا لقوانين وأنظمة الجامعة التي تسمح للرئيس بالبقاء في منصب الرئاسة أربع سنوات ويجدد له عام آخر عند الضرورة ، فهل بقاؤه في منصبه، له صلة باتصالاته الدولية مع ذوي النفوذ في بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل ، أم بآرائه، المثيرة الجدل والتي تلقى استحسان أهل الحل والعقد في الدول الغربية؟ وهل انتماؤه لأسرة مقدسية عريقة يبرر جلوسه على كرسي الرئاسة لسبعة عشر عاما، وكأن الجامعة ملكا من أملاك أسرته؟  

فإن لم يكن هذا السبب أم ذاك،  فلماذا تبقيه السلطة في هذا المنصب، ولماذا  لم  يتحرك مجلس أمناء الجامعة طيلة هذه السنوات لإقالته من منصبه؟ هل ينتظر رئيس مجلس الأمناء السيد أحمد قريع إذنا من الرئاسة، للعمل على إقالته؟ وهل يتعرض الرئيس أبو مازن لضغوط دولية تمنعه من إقالته؟ وهل سيورث أ.د. نسيبه منصبه لابنه جمال الذي يشغل منصب نائب الرئيس لشؤون القدس؟
أسئلة كثيرة لا أجد إجابات محددة لها ولا تفسير لها، سوى التماثل بين وضع رئاسة الجامعة ووضع رئاسة السلطة الفلسطينية.  فكلاهما رئيسان غير شرعيان، بموجب القوانين، وكلاهما خاضعان لإرادة دولية، تريد أن تبقي على الأوضاع السيئة الراهنة للطلبة والأكاديميين في جامعة القدس، وكذلك للشعب الفلسطيني. يسعى طلاب الجامعة للحصول على شهادات تؤهلهم للدخول إلى معترك الحياة، ولكن معظمهم يصطدمون بواقع مرير يحول بينهم وبين تحقيق أحلامهم في الحياة الكريمة، وهم جزء من الشعب الفلسطيني الذي يعيش مأساته بكل أبعادها، شعب يسعى لحرية وكرامة واستقلال، وعيش كريم،  فلا يحصل على أي شيء سوى الذل والاحتلال والسلطة الفاسدة المتسولة، وسياسات الغرب الماكرة، التي تضع إسرائيل وأمنها في أولويات اهتماماتها، وتترك للفلسطينيين فتات اتفاقيات هزيلة، غير قابلة، برغم هزالها للتطبيق.

الطريق إلى التغيير مسدود، وفقد الشعب البوصلة، وكذلك طلبة الجامعة، والهمم نائمة، والذئاب تسرح وتمرح في الميادين، دون رادع، المشكلة تكمن في روح الجبن والهزيمة  لدى طلبة الجامعة وأساتذتها وموظفيها وكوادرها، ومجلس أُمنائها الذين لا يثورون على أوضاعهم ويوقفون هذه المهزلة، كأنهم قطيع من الأنعام، لا حول لهم ولا قول، لا يستطيعون محاسبة الرئيس، لا يتصدون لقراراته ، لا يرغمونه على الالتزام بالقوانين والأنظمة، رغم أن كثيرين منهم يشهدون بأُم أعينهم سوء الإدارة والفردية في اتخاذ القرارات، ولكنهم يحجمون عن القيام بحملة لتنحيته عن مقعد الرئاسة. ويصمتون، فلماذا يحجمون ويصمتون؟

هل يصمت مجلس الأمناء لأنه مجلس من الإمعات؟
هل يصمت الأكاديميون لأنهم يخشون أن يفقدوا الراتب والوظيفة؟
هل يصمت الطلبة لأنهم منقسمون على أنفسهم، أو يخضعون لسيطرة المليشيات الطلابية المرتبطة بالأجهزة الأمنية؟

نعم، مجلس الأمناء يصمت لأن أعضاءه بيادق على لوحة شطرنج، لا يتحركون، بل يحتاجون إلى من يحركهم، ومن يحركهم غير السلطة الفلسطينية ورئيسها الذي لا يسمع صيحات المطالبين بالإطاحة بـ أ.د. نسيبه.  والأكاديميون والعاملون في الجامعة يصمتون أيضا، لأن بعضهم جزء من العصابة الحاكمة، والآخرون عبيد الراتب والوظيفة.

والطلبة يراقبون، بعضهم لا يسمع ولا يرى، وبعضهم متورط بالحصول على امتيازات أو مال من الفاسدين في الجامعة ، وبعضهم غارق في مشاكله، والمحصلة النهائية هي الجمود والتقاعس، يصيح صوت هنا مطالبا بألا يرسل أي دعم، طالما لا توجد نية لإصلاح مالي أو إداري، أكاديمي يكتب بيانا تحت اسم حسن الهلالي ، أليس من العار عليه أن يستخدم اسما مستعارا، وأن يكتب بيانات يتهم فيها أ.د. نسيبه بأنه "الفرعون الصغير" في الجامعة، ولا يجرؤ على المجاهرة باسمه. ما هذا الخوف الذي يجتاح الطلبة والأكاديميين ويجعلهم لا يتحركون بطريقة منظمة. أيخشون فريق المليشيات الطلابية، الذين لهم مصالح ببقاء وتسود نظام وقانون أ.د. نسيبه الاستثنائي على حساب تعطيل أنظمتها وقوانينها؟.

صورة الوضع في الجامعة صورة مصغرة عن الصورة المكبرة للوضع الفلسطيني العام، بل مرتبطة به ارتباطا وثيقا، والسيد أ.د. نسيبه حلقة الوصل بين الصورتين لو تأملنا  وفكرنا بما يجمع بين طلبة وشعب، نجد أن الصمت عنصر رئيس جامع ، أقصد هنا صمت الفلسطينيين على بقاء الرئيس عباس في مقعد الرئاسة، رغم انتهاء فترة رئاسته، وصمتهم على التنازلات المجانية التي قدمتها السلطة لإسرائيل منذ قدومها، على أمل أن تفوز بجائزة إقامة دولة فلسطينية منزوعة من السلاح، وممسوكة كفأر في مصيدة الاحتلال، وبلا صلاحيات سيادية على الأرض والإنسان،.   

أين شرفاؤك أيها الشعب الفلسطيني؟ إن  صمت الطلبة ومجلس أمناء الجامعة ومجلسها الأكاديمي على استمرار إدارة السيد أ.د. نسيبه لا يختلف عن  صمت الشعب والكوادر الفلسطينية في منظمة التحرير بشأن العديد من التنازلات الكبيرة، والعديد من الفضائح وجرائم الفساد، والجرائم الأمنية، وعلى رأسها اغتيال الرئيس ياسر عرفات بالسم.


وتتكامل الصورة في مأساويتها عندما نحس بلسعات السيد أ.د. نسيبه، حلقة الوصل بين الصورتين. فهو كرئيس للجامعة، يعزف أنغام حالات الاستثناء، وكـ "شخصية وطنية" يمعن في تقديم التنازلات المجانية. والقائمة طويلة: إسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وإحباط المقاومة، ومعارضته لموقف الأكاديميين البريطانيين الذين أعلنوا مقاطعة الجامعات الإسرائيلية، ثم حديثه مؤخرا عن الكنفدرالية.
 يقول نسيبه في لقاء أجراه مع موقع القنطرة: "شخصياً أعتقد أن عودة اللاجئين حلم لا يمكن تحقيقه في المستقبل القريب. أولاً، لا يمكن تحقيقه من ناحية أن يعود اللاجئ إلى البيت الذي أُخرج منه والداه أو أجداده. لقد دمرت معظم هذه البيوت ولكن هناك حق قانوني، الأمر الذي يعني أنه يجب أن يكون باستطاعتنا المطالبة بتعويضات، على سبيل المثال، أو نوع آخر من التعويض مقابل النفي".




مضيفا: "من وجهة نظري، يحتوي الحل كذلك على حقيقة أنه ستكون هناك دولتان وأنه سيكون بإمكاننا تعويض اللاجئين مادياً ومعنوياً من خلال تمكينهم مباشرة حياة جديدة بدلاً من القلق بأمر غير ممكن عملياً، كالعودة بالمعنى التقليدي. إذا أُريد حل مشكلة اللاجئين فسوف يتطلب ذلك من الإسرائيليين التضحية بشيء ما: كامل القدس الشرقية، وخاصة المدينة القديمة والمناطق المقدسة. وهذا سيكون الثمن لقاء التنازل عن حق العودة. أعتقد أن اللاجئين الفلسطينيين سيكونون على استعداد لتقديم هذه التضحية".
لن أسهب في الحديث عن تنازلات أ.د. نسيبه الأخرى مثل حديثه عن عسكرة الانتفاضة، ويعني بذلك  وضع نهاية للمقاومة، فهل توقفت إسرائيل عن عنفها المستمر ضد الفلسطينيين حتى يتوقف الفلسطينيون عن عنفهم الذي يسميه أ.د. نسيبه إرهابا. ولن أتحدث مطولا عن شعوذته حول الكنفدرالية بين الكيان الفلسطيني والدولة العبرية. 
 يسعى نسيبه إلى إقامة كنفدرالية بين كيانين غير متجانسين وغير متساويين، أحدهما دولة إسرائيل الكيان القوي والمهيمن على فلسطين من البحر إلى النهر، والثاني هو كيان إدارة ذاتية على جزء صغير ومحتل من فلسطين، وهي كالإدارة المدنية التي كانت جزءا من الاحتلال بل أكثر سوءا لأنها إدارة سلطة مجبرة على التنسيق الأمني مع الاحتلال، لقمع أي مقاومة ضده. فالكنفدرالية التي يتحدث عنها أ.د. نسيبه هو كنفدرالية بين ذئب وغزال.
لن أتصدى لمثل هذه الاقتراحات، التي لا تجد أذنا إسرائيلية، ولا قلبا فلسطينيا، ولا عقلا دوليا، إنها أقوال في الهواء، الغرض منها تخريب الموقف الفلسطيني بتقديم حسن النوايا لإسرائيل، دون  الحصول على مقابل مطلقا، ولا حتى على وعد من قبل الإسرائيليين، بأنه في حال أن الشعب الفلسطيني قدم مثل هذا التنازل عن حقه، سينال حقا آخر ثمنا لحق تنازل عنه.
المساومات على الحقوق لعبة قمار خاسرة تضعف الموقف الفلسطيني، وتجعله مشوشا، يركض لاهثا وراء سراب، لن يمسك بيده في نهاية المطاف غير السراب، فالحقوق لا يساوم عليها من نقطة الضعف بل تنتزع انتزاعا، والمفاوضات غير المسندة إلى قوة لن تؤدي إلى نتيجة لصالح الطرف الضعيف، بل على العكس تماما، والمفاوضون الفلسطينيون عندما يخوضون مفاوضات في إطار ميزان قوى مختل لصالح إسرائيل، إنما يسيرون إلى ساحة حتفهم، أقصد الساحة التي ستعدم فيها الحقوق الوطنية الثابتة، وإن لم يكن الشعب الفلسطيني قادرا على انتزاع حقه الآن،  سيكون قادرا في المستقبل، ولكن البداية تكمن في التضامن والتخلص من الفاسدين والمساومين على الحقوق، وهذا ما تخشاه إسرائيل.
لو استمر المفاوضون الفلسطينيون في الركض خلف مهازل أوسلو، وهم يركضون ولا يتوقفون عن استجداء الحلول، فإنهم سيجدون أنفسهم واقفين أمام السد الصهيوني المتنكر لحقوقهم، وهم بالفعل في هذه اللحظات يقفون عاجزين أمام هذا السد فلن تنفعهم سباحة المنظرين من أمثال أ.د. نسيبه في الاتجاه المعاكس، بل سيغرقون في اللجة العمياء، ويُغرقون معهم الشعب الفلسطيني.  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق