تحقيقاتٌ تُرهِبُ السلطانَ ولا تَرْهَبُهُ

تهافت سماسرة الأراضي والوطن

04‏/06‏/2012

بلاد تحكمها ملائكة - الشيخ الدون جواني


الفصل الأول - الحلقة الأولى
(أول رواية  تُنشر في مدونة المحقق الفلسطيني عن فساد منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية)

كانت السكرتيرة الأولى ريم مداح على يقين بأن الشيخ قد يسقط إلى الحضيض، ويكُشفَ أمره أمام الله ومخلوقاته، وهي لا تريده أن يسقط، لأنها متورطة معه، أولا، ولأنها لا تريد أن يسقط وحده، فهناك آخرون يستحقون أن يسقطوا. 
أحست أنها تتعاطف معه، فلم يكن أول ولا آخر شيخ يتحرش بالنساء، ولا شك أنه ارتكب جريمة، وهي شريكته، ولكن لماذا يحاسب وحده على تلك الجريمة؟ ولماذا لا يحاسب بقية المتحرشين من وزراء ورجال أمن وسياسيين؟ أحرام عليه التحرش وحلال على الآخرين؟  لذلك، قررت أن تكتب اعترافاتها لتذكر هذه الحقيقة ،وتكشف فساد الآخرين، فهي ترفض أن يسقط  الشيخ وحده ولا تسقط معه منظومة الفساد، وتستطيع في هذه اللحظة أن تذكر جميع أسماء الذين لم يسقطوا من االفاسدين من أركان لنظام، وقد فعلوا أكثر من التحرش الجنسي، وأكثر من نهب المال العام، وأكثر من سوء استخدام المنصب، فعلوا أشياء يندى لها الجبين ، خانوا الوطن ولم يحاكمهم أحد. بقيت منظومة الفساد متماسكة  وقوية ، وازدادت شراستها لأنها تمسك بقوة بمفاتيح السياسة والمال والعسكر والقضاء والاعلام ، وهي مدعومة بقوة الاحتلال، ولها امتدادت وتحالفات وعلاقات مع منظومات أخرى في الخارج.
كان من الواضح أن سقوطه  لم يكن
فرديا بل أثر سقوطه على النظام معنويا ورمزيا ،  وصُدم  قادة العسكر وزعران المخابرات وأصحاب الضمائرالميتة  من السياسين ورجال الأعمال والقضاة والإعلاميين.
 وبعد سقوطه المدوي ، كان على حماة النظام أن يختاروا بين حماية صاحبهم  أو أن يتركوه يسقط في اللجة العمياء وحده. اختاروا الأمر الثاني بل شاركوا في الحملة ضده ولعنوه ووصموه بالفساد والإنحلال وقالوا: ليذهب إلى الجحيم وحده، لا نرغب بالذهاب إليها ونريد ان نحافظ على أنفسنا.  
 لما انتهت من كتابة التقرير، قامت بإرساله عن طريق طرف ثالث إلى عروة الأمين، وطلبت أن يطلع عليه ويحتفظ به في ملفاته، وأن لا يقوم بنشره حتى تأذن له، كانت برغم تعاطفها معه، تريد ابتزاز الشيخ، وتجبره على القيام بطرد ميسون حسني من عملها حتى تبقى المحظية الأولى للشيخ.
ولما قام عروة الأمين بنشر التقرير عن فساد الشيخ ، حاولت إيقافه، وصحت بأعلى صوتها: "مش هوة وبس، يا عروة، خود معاه التانيين وجروهم إلى حبل المشنقة". لم يؤخذ الشيخ إلى حبل المشنقة، ولم يعاقب أحد، وهذا يعني أن الحكاية كلها "فالصو"، والكلام عن الفساد "فالصو".
توقع أعداء الشيخ ومريدوه وآخرون غارقون في همومهم  اليومية ، وكثرة من الصامتين المتفرجين ، الكارهين للتغيير أو الخائفين منه ، المغلوب على أمرهم ، المؤمنبن بعجزهم، أن يعود الشيخ من مستنقع فضيحة كَشفت تورطه بالتحرش بإحدى موظفاته  في ديوان قاضي القضاة إلى وكره الخرب تفوح منه رائحة ضفدع، لكنه، عاد متكبرا ، منكرا ما قد فعل.
مشى  مشية طاووس بين إناث متزوجات وعازبات، فخرجن من مكاتبهن - بلغة أدق من جحورهن- ووقفن في الممرالعريض يرددن التحيات، ويقمن بتبجيله، عشرون موظفة برفقة بعض الذكور وقفن على جانبي الممرينظرن إليه، لعلهن يحظين بإيماءة منه، استمر في مشيته، مارا بمكتب سكرتيرته الأولى إلى أن وصل الباب الزجاجي المؤطر بالنحاس الأنيق، فأدار قبضته النحاسية ، وعبره إلى جناح مكتبه الفخم، وكل ما فيه من أثاث ورياش  ينم عن ذوق و وبذخ. 
شهادة الدكتوراة في علوم الفقة وأُصول الدين تحتل مكانتها
المركزية على الحائط خلف المكتب، يرافقها زميلاتها من شهادات التقدير والتكريم من شخصيات مجتمع النفاق الذي تعميه الأطماع والمصالح وتبهره المظاهر إلى حد العمى ، دخل مكتبه رافعا رأسه ، متأبطا حقيبته الجلدية السوداء، ثم وضعها على سطح مكتبه الخشبي المدهون باللون "الماهجوني" (البني المحمر الداكن)، الذي يحتل جُل المساحة بين الجدار والجدار،  ثم فتح الحقيبة، وأخرج أوراقه، ودفتر "شيكاته" وجلس على كرسيه الهزاز. 
هرعت السكرتيرة الأولى إلى المكتب، فأشار لها بإيماءة من يده بالجلوس على الأريكة أمامه.
يحب الشيخ مظاهر الفخامة والأبهة وصُورُه تحتل حيطان غرفة المكتب ، صورةٌ له مع الرئيس الراحل على الحائط  إلى يمين شهادته، وإلى يسارها صورة أخرى تجمعه بالرئيس الحالي، وثالثةٌ مع الملك الراحل ورابعة مع الملك عبدالله الثاني، ملك الأردن، صورة مع الرئيس المخلوع حسني مبارك، صورةٌ مع قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، وأخرى مع الراحل قداسة البابا شنوده الثالث، وصورة، وهو يلقي خطابا أمام حشد من الناس، وصور مع أصحاب الفضيلة وأصحاب النيافة وحاخامات ورجال دين يهود في مؤتمرات الحوار بين الأديان التي عُقدت في عواصم مختلفة. 
كانت رائحة البخور تفوح في أرجاء المكتب، كتلك الرائحة التي تفوح في زوايا المتصوفين. ولكن رائحة البخور لا تنسجم مع التماثيل التي زين بها مكتبه، تماثيل صغيرة لحيوانات مفترسة، اسود تلتهم بشرا وذئاب تبطش برجال ونساء، وأفاع سامة تلتف حول أعناقهم وأجسامهم. 
جلست السكرتيرة ريم مداح كما أمرها الشيخ، عيناها جريئتان وجميلتان أيضا، وانتظرت أن يبادر بالكلام، توقعت  أن يقول شيئا، أن يُبرأ نفسه من الفضيحة، لكنه حدق في وجهها محاولا أن يسبر أغواره، ويكشف أسراره، وبعد صمت وتوتر استمر عدة لحظات ، قال بصوت فولاذي: "بدأت الأمور تسير في الاتجاه الخاطىء، الماء تجري تحتي دون علمي، وهذا نذير شؤم، والمجرمون المتآمرون سيلقون جزائهم حتما، سأُمزقهم إرباً إرباً".  
قال ذلك بصوت يقطر تهديدا وشكا بأنها تخفي عنه أمرا. 
خُيل إليها أن الذي يحدق بوجهها هو ذئب بشري، ونظرات عينيه الناريتين تحرقها، أشاحت بوجهها، لم تقل شيئا، انفجرت الأفكار في رأسها، وتلاطمت كموج البحر: ماذا دهاك أيها الشيخ الذي اختلت أحواله، وتعقدت أموره  وتعذرت الحلول، الخطأ صواب والصواب خطأ في القول والفعل، في الحكم والإدارة والسياسة، في كل شيء، إنه يتخبط ويشك بكل شخص يعمل في الديوان، ويشك بها أيضا. 
تجنبت تأكيد شكوكه أو نفيها، ولزمت الصمت، وتساءلت في سرها: هل كانت الأمور تسير في الاتجاه الصحيح في يوم من الأيام منذ اليوم الأول الذي عملت فيه في ديوان قاضي القضاة؟ وما هي طبيعة ذلك الاتجاه الصحيح؟ هل يكون الوضع مثاليا إن بقي الديوان مهلهلا ويعمل فيه موظفون غير أكفاء وينخر الفساد أقسامه؟ 
فإن ظهرت مبادرات للاصلاح من شخصيات من داخل الديوان أو خارجه أو كليهما، هل يصبح الاتجاه خاطئا، في نظر الشيخ، هل يخشى الشيخ الاصلاح المتوقع ويأخذ الاحتياطات اللازمة لمنع حدوثه؟ هل يريد الشيخ أن يُخلد الوضع على ما عليه داخل الديوان؟ هل يريد أن يتصرف الموظفون ببلادة، ولامبالاة، يعطلون العمل، ولا يتحملون أي قدر من المسئولية وماتت أحاسيسهم، لا يهتمون إلا بالرواتب والعلاوات  ويعقدون  الاجتماعات الخائبة كل يوم دون جدوى أو نتيجة أو قرار، يتصرفون كتنابلة السلطان عبد الحميد. 
لم تكشف ريم مداح للشيخ ما يدور في خُلدها، فاكتفت بالقول: "الأمور مستقرة في البلاد اليوم، يا فضيلة الشيخ، كما كانت عليه يوم أمس، ولم يحدث أي جديد, الرئيس في المقاطعة برام الله، يستقبل الدبلوماسيين الغربيين، كالمعتاد، ويشرح لهم طبيعة الأزمة الناشبة بينه وبين الإسرائيليين حول موضوع الاستيطان، فيعبر الدبلوماسيون عن تعاطفهم  مع مطالبه بوقف الاستيطان، ويتعهدون بأن ينقلوا وجهة نظره  بشأن هذه المسألة للإسرائيليين ، ويؤكد لهم أن الأزمة لن تتحول إلى انتفاضة ثالثة، وأن الأجهزة الأمنية جاهزة لقمع الخارجين عن القانون".
قال الشيخ: "أصبحت يا ريم مداح بارعة في تحليل الأوضاع السياسية، وكأنك تواظبين على حضور اجتماعات الرئيس، وتعرفين كل صغيرة وكبيرة، لكن هذا الموضوع لا يقلقني أبدا، الرئيس رجل حكيم ولا يريد أن يورط الشعب في انتفاضة ثالثة، إنه يحقن دماء أبناء شعبه دون أن يتخلى عن مطالبة الاسرائيليين بحزم أن ينفذوا التزاماتهم التي قطعوها على أنفسهم في إتفاقات سابقة، ولكنني لا ألوح باستخدام القوة إن أحجموا عن تنفيذها. وهذا الأمر لا يقلقني أبدا. أقول بصراحة إنه لا يهمني على الاطلاق، لأن الأمور لا تقاس بالقول بل بالقدرة على الفعل ، وموقفي مثل موقف الرئيس، ننتقد استمرار الاستيطان، ولكننا لا نلوح بالعصا، فعصا الاسرائيليين أثقل من عصاتنا، ولكنني أقلق فقط من تلك الشئون  التي يستطيع الرئيس فيها أن يفعل". 
"اذن، ماذا يقلقك أيها الشيخ، حتى تخاف من فعل؟" قالت بصوت يظهر من نبرته أنها تعني عكس ما تقول. 
أجاب الشيخ:"أنت تعلمين أن الشيخ ماهر الأحمد أرسل تقريرا سريا إلى جهات أمنية شحنه بحقده ، وزعم أنني أسرق المال، وأتصرف بالميزانيات، وأنفقها على أتباعي، وتعلمين أيضا أن الموظفات يهمسن كلاما وصل إلى أسماع الناس، فروج المروجون  شائعات مغرضة تتهمني بملاحقتهن والتحرش بهن. والناس يتحدثون كثيرا عن صفقة مدرسة ابن سينا، إنني أشم رائحة مؤامرة قذرة تحاك في الخفاء ضدي.  أُحس أن شيئا غير عادي سيحدث هذا اليوم، وأن الشياطين خرجت من أوكارها وتريد الانقضاض عليّ؟ 
أجابت ريم مداح ذات العينيين الخضراوتين والصوت الشادي:"الشياطين تخرج من أوكارها الخربة فقط في ساعت الليل المتأخرة، عندما يخلد الناس إلى النوم والراحة، وليس في الصباح عندما يخرجون من بيوتهم متوجهين إلى أعمالهم". وأردفت قائلة بصوت ساخر: ولكنها، قد تخرج من أوكارها  في الصباح في أوضاع الطوارىء". 
"اذن أنت تعلمين أمرا وتخفينه عني" قال الشيخ. 
أجابت بحدة: "لا أعلم أمرا لا تعلمه أنت أوغيرك، وقد اطلعت هذا الصباح على ما أوردته وكالات الأنباء، عن اختفاء عدد كبير من الملفات الخطيرة في عدد من المؤسسات والوزارات".
أخذ الشيخ يرشف فنجان القهوة بعصبية. شعر بالقلق من المستقبل، ولكنه كان يعلم أن غيره المسئولين أكثر فسادا منه، ويعلم أيضا أن أفراد عصابته يمكنهم أن يفعلوا أي شيء يريده في سبيل عدم كشف المستور، ولكن اختفاء الملفات من مكتبه ومكاتب المؤسسات والوزرات جعله يقلق كثيرا. 
تساءل: "هل اختفت الملفات بمؤامرة منسقة بين أطراف داخلية وخارجية ؟
"لا أعرف أكثر مما ورد في الأخبار" قالت ريم مداح.
كانت قضية اختفاء الملفات تتفاعل داخل المؤسسات والوزارات قبل قيام وكالات الانباء وشبكات التلفزة والصحف بنشر تقاريرها. أخبره بعض الأشخاص في جهاز المخابرات أن الملفات لدى الضابط عروة الأمين، فازداد قلقه بأنه سيفقد كل شيء، لأن هذا الضابط لا يؤتمن جانبه، فهو عصي على الترويض، ولا يخضع لأحد، ولا يمكن شراؤه بالمال، ويصعب أُسقاطه في حبائل النساء، إن قام بكشف الأوراق والملفات، سيفقد الشيخ احترامه وتتجمد أو تنهار مشاريعه. لو كُشف أمره سيلقى احتقار المواطنيين. ويتوقف هؤلاء عن اللجوء إليه وطرق بابه يطلبون منه أن يُصدر الفتاوي في المسائل الشرعية وسيتوقف الاعلاميون المنافقون عن الاتصال به والطلب منه بأن يُدلي برأيه في القضايا السياسية.
وسألها: هل اختفى ملف الشيخ سليم رضوانه أيضا؟
أجابت: نعم اختفى.
سـألها: وما هي الملفات الأخرى التي اختفت؟
قالت: فتش عنها في محرك البحث "غوغل" وستجدها. وقد قمت بطباعة نسخة منها. وأعطته النسخة. فقرأ أسماء الملفات في القائمة، وهي مذكورة بأسماء الأشخاص المتورطين في قضايا الفساد، وكان اسمه واسم الشيخ سليم رضوانه مذكورين في القائمة، وتضم أيضا:"الشيخ ماهر الأحمد ورجب العتيق ومازن عبد معطي ومحمود سرحانه  وأبو اليمامة والبرغلي والبطاط وابن المزحلقة، وسمعان الغدار ونواف السعدان والعاصي ربه التعبان والجماعات التعبانة وأمراء السلخانة وأبو سريع السماك والشاطر حسن ودليلة المحتالة وعلي الزيبق وبقية عصابة الأربعين حرامي".
 قالت ريم مداح:أنت تعرفهم فردا فردا، وجميع موظفي الدولة يتحدثون عن اختفاء ملفات هؤلاء المذكورين الذين يحتلون مناصب عالية في الدولة وأجهزتها الأمنية، أصبح القلق يعم كل مؤسسة ووزارة. و"اللي على راسه بطحة ، يحسس عليها".
"نعم، نعم، سمعت بالأمر، وانزعجت منه، ولكني ، لا أعتقد أن أحدا يجرؤ على كشف محتويات هذه الملفات للملأ، هناك معلومات خطيرة جدا جدا، معلومات عن قتل وخطف وسرقة وعمليات نصب واحتيال وأعمال عربدة وتجسس وبلطجة، لا يمكنك أن تتصوري مدى خطورتها، إن كُشفت ستحدث مصيبة بل ستقع مصائب، وتضرب البلد بالزلزلة، ومن يجرؤ على نشرها، يذهب بقدميه إلى القبر أو السجن"، قال الشيخ. 
"صدقت، لكن أخذ الاحتياطات واجب. ماذا تنتوي أن تفعل في حال تم الكشف عن الملف الخاص بك وبالشيخ سليم رضوانه؟"
"لا شيء. أجلس في بيتي وأضع رجلا فوق رجل وأنا مطمئن".
"تجلس في بيتك وتعرض نفسك للمسائلة، ألا تخطط للهرب من البلد. وهل أمنت المال!".
ضحك الشيخ وقال: "لا تقلقي، لقد فكرت في كل أمر وفتحت حسابات سرية في بنوك سويسرية، وأنت تعلمين على الأقل عن حساب واحد، وهو الحساب المسجل باسم شقيقتك، وبشأن الهروب، فلن أهرب طالما أنني لا أشعر بأي تهديد حقيقي، فإن خربت الأوضاع، لن أبق هنا دقيقة واحدة". 
"وهل أهرب معك؟"
"نعم، إن رغبت بذلك، وإن كانت الأوضاع مناسبة لسفرك معي، ولكن لا أريدك أن تقلقي، لم ينهار معسكرنا، نحن متماسكون، والكلام العام عن الفساد كثير ولن يزعجنا. فليقيموا الدنيا بالحديث عنه ولن يتغير أي شيء".
"أنت تقول هذا، وأرى أن التغيير الذي يجري في الأقطار المجاورة، سيطالنا، عاجلا أم آجلا، كما طال تلك الأقطار، نحن جزء من هذا العالم"، قالت بانزعاج. 
"اطمأني، لم يحدث التغيير هنا ، ولن يحدث، فما نراه في الأقطار المجاورة ليس أكثر من احتجاجات فقط، بعضها عنيف وبعضها يأخذ طابعا سلميا، لكن الثورة لم تقع ولن تقع هنا. الثورة التي يتحدثون عنها لن تحدث، وسنموت قبل أن تحدث" قال الشيخ بحزم وتأكيد.
"ألم يكن الفلسطينيون صانعيها الأوائل وروادها؟ تساءلت السكرتيرة. 
أجاب: "نعم، ولكن حدثت الثورة في الزمن الماضي، وانتهت قبل أن تحقق أهدافها، لا في تحرير الأرض ولا في تحرير الإنسان، واستسلم قادتها، وقالوا إن استسلامهم سلام، فأي سلام هذا الذي جعل الشعب غير قادر على تقرير مصيره، وحول من بقي حيا من قادة الثورة السابقين إلى تجار وسماسرة يرتكبون جرائم الفساد دون رادع ، والشعب خاضع ، كأن الأمر لا يعنيه ، نعم إنني أقول ذلك لك فقط، وأمام الناس أتحدث عن الثورة والثوار العائدين إلى الوطن ومشروعهم الوطني ، أتحدث عن حزمهم وعزمهم وإصرارهم على مواجهة محاولات الإخلال بالأمن.  
حدقت السكرتيرة في وجه الشيخ ولم تصدق ما سمعته، وتساءلت في سرها: أهذا هو الشيخ الذي يرفع الصوت عاليا ضد الاستيطان والاحتلال؟ إنه يتحدث عن  قمع شعبه. ولكنها هزت كتفيها غير آبهة بما قال، فهي مثله لا تريد للثورة أن تنفجر وتدمر، الثورة جرافة تجرف كل شيء. الثورة نار تأكل الأخضر واليابس، الثورة بذور وسنابل وزرع جديد. فإن لم تكن كذلك، فهي ليست بثورة. ولا يمكن أن تهدم بناية متينة وذات أساسات باستخدام مفك. إن لم تكن الثورة أقوى من النظام، فلن تتمكن من هدمه. 
رغم أن ريم مداح امرأة غير ثورية، بيد أنها كانت تمتلك وجهة نظراكتسبتها من قراءة الكتب، كانت في العلن تمجد الشيخ وتتودد إليه، وفي الخفاء تكرهه وتحتقره، كانت تتمنى أن تتحطم أسطورته، ويكشف الناس زيفه.
أضاف الشيخ : قلت لك لا تقلقي، حطي إيديك ورجليك في المية الباردة. إذا وصلت الثورة إلى هذه البلاد، لن تكون بأفضل حال من الثورات في الأقطار الأخرى، بل ستكون في وضع أسوأ، وستفشل.  
قالت: "إنني لا أفهم حديثك؟"
"اسمعي، سأوضح الأمر بصورة مبسطة. إنني أطلق التصريحات النارية، فهل تعتقدين أنني ثائر! أقول لك بصراحة أنا لست بثائر، ولكني في عهد الاحتلال، اشتغلت بالانتفاضة الأولى، لأكسب السمعة الوطنية، ومن أجل أن أميز نفسي عن غيري، وكل ما فعلته هو الكلام. تكلمت وخطبت وصرحت وكتبت. كانت حنجرتي قوية وصوتي جهوريا، وأسهبت  في شتم ولعن الاحتلال، وحتى هذه اللحظة أقوم بشتمه ولعنه، لأخدع الناس". 
أضاف الشيخ معترفا لها:"استعملت الثورة وركبتها كما أركب الحمار وتاجرت بمبادئها، وكان هدفي الوصول إلى ديوان قاضي القضاة. ولما وصلت انغمست فيما نحن فيه من فساد ،  ولكني بقيت أهدر بتصريحاتي العنيفة، بل قمت بإحراج البابا في زيارته الأخيرة للقدس".
"إنني أعترف لك، بأنك بارع في الغدر والخيانة والنصب والاحتيال والكذب، ولكن لكل جواد كبوة"، قالت ريم. 
"أعرف ذلك تماما"، قال الشيخ ، مضيفا: "ولكني متأكد أنني لن أتعرض للمسائلة أبدا. هل سئل زعيم عربي عما فعل؟ هل تمت محاكمة أي مسئول عربي محاكمة نزيهة. عندما يتورط جميع المسئولين في الفساد، تغيب المساءلة، وإن جرى الحديث عن نية الرئيس أو المسؤول  في مسائلة  مسئول آخر، فالأمر لا يتعدى مجرد حديث عام، هدفه خداع الناس، قد تجري محاكمات صورية، هنا وهناك لبعض المسئولين، ولكن لن تصدر أحكام تكسر عظام المتورطين في قضايا الفساد. إذا كان الرئيس فاسدا، وقائد الشرطة يقبل الرشوة والنائب العام لا يحول أي ملف فساد دون موافقة الرئيس إلى المحكمة، والقاضي لا يحكم بالعدل، إذا كانت لجان التحقيق المعينة صورية، هل تجري  محاكمة عادلة ونزيهة؟ ما يحدث باختصار، هو أن الرئيس يشكل لجنة تحقيق، ويقوم أفرادها بالتحقيق مع المشتبه بهم، ويحصلون على إفاداتهم، ويُعدون التقارير ثم يرفعونها إليه، والرئيس يضعها في أدراجه، ويستخدمها ضد الوزراء والموظفين الكبار والمسئولين الأمنيين المتورطين لكسر أعينهم وابتزازهم وتهديدهم بتحويل ملفاتهم إلى المدعي العام، وإرغامهم على تنفيذ أوامره وتعليماته دون مراجعة. الرئيس يريد جيشا من الأتباع وشعبا من الخراف، ويبعد عنه الصقور بل يتخلص منهم بتهميشها وطردها وقتلها وسجنها، ويرفض أن يحاسبه أحد، فهو فوق القانون، أنت يا ريم مداح تعرفين هذه الأمور، ولا تخفى عليك خافية".
قالت ريم مداح: صدقت. إنني أعرف ذلك. ولو كان هناك لجنة تحقيق حقيقية، لما كنت الآن هنا تتحدث معي، ستكون حتما في بيت خالتك. 
قال الشيخ: فال الله ولا فالك. إنني أكره لجان التحقيق حتى ولو كانت صورية، فهي تنغص عليّ عيشتي، وتجعلني أقف أمام الرئيس ذليلا، مُنحنيَ الهامة، وأقبل إهاناته لي دون أن أنبس ببنت شفة. 
"ولكنهم قد يضحون بك، يا مسكين. فليس لديك ميليشيات تدافع عنك، إن كشف أمرك، ستهلك ولن يحميك أحد. سيستعملك المسؤولون  كبش فداء، يكشفون أمرك للناس، ليقولوا أنهم تمكنوا من القضاء على الفساد وتطهير المؤسسات من الفاسدين"، قالت محذرة.  
"صدقت" أجاب باقتضاب، مضيفا:" نعم ، قد يتم التضحية بمسئول كبير من أجل انقاذ مسئول أكبر". وقال في سره: هل سيتخلى عنه الرئيس، قد يحدث ذلك، والسكرتيرة مصيبة. عليه أن يفكر بالوسائل البديلة، فالقعود في البيت وعدم فعل أي شيء سيؤدي إلى كارثة ، ولكن ماذا عليه أن يفعل؟ أخذ يفكر بضرورة الحصول على معلومات مباشرة من المسئولين لمعرفة أين وصل التحقيق في قضية اختفاء الملفات.
طلب منها أن تحضر التقارير المنشورة وتجمع  تصريحات المسئولين عن هذا الأمر وبدأ يتصل بالمسئولين الذين اختفت ملفاتهم لتشكيل جبهة صد وحماية للفساد والفاسدين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق