تحقيقاتٌ تُرهِبُ السلطانَ ولا تَرْهَبُهُ

تهافت سماسرة الأراضي والوطن

01‏/04‏/2012

إعلان دولة حارة بني دار


ذات يوم جلس المحقق الفلسطيني مع صديقه أبي معروف في منتجع الفشخة المطل على البحر الميت.  كان أبو معروف ينظر إلى البحر، وبيده زجاجة من النبيذ، يضعها على فمه ويشرب منها، كشخص ظمآن, ولما فرغ منها، استدار مبتعدا عن صديقه وأخذ يحدق في البحر. لحق به المحقق.  
- وينك يا أبا معروف. وين سرحت في تفكيرك.
-أنا هون. خلصت القنينة؟
- ما تخافش في غيرها. دبرت حالي.
أخرج المحقق من حقيبته زجاجة أخرى، فتناولها أبو معروف، وشرب ثلثها دفعة واحدة، ثم وضعها جانبا، ولم يتحرك من مكانه، وقال وكأنه يحادث نفسه:
- فكرك بتصير إلنا دولة؟
- أية دولة؟
- يا زلمة، دولة فلسطين، شو صار بعقلك؟ هو أنا السكران ولا أنت. يعني دولة استحقاق أيلول في الأمم المتحدة، مش أعلنوها.
- أعلنوها؟ وين أنت عايش؟ شو
ما بتسمع أخبار، صحيح إنك مسطول، هو الله بلاني بالمساطيل، طيب بطل هالشرب شوية، وخليني أفهمك.
- احكي أنا سامعك.
- باختصار، الموضوع فراطة...  
- يعني بعد كل ها الزيطة والزنبليطة (أي الضجيج الإعلامي) ما أعلنوها؟
-لا... ما أعلنوها... يا سيدي
- يعني ما فش دولة...
- لا ما فش دولة
- طيب والحل
- شو بتتهبل علي يا أبو معروف. ما تحل عن سماي. أي هو في حل.
- يعني خلص راحت علينا...
- راحت ونص وما إلنا غير الله
- والنعم بالله احكي ليش صار فينا هيك؟
- أخ منك يا أبو معروف. ما انت عارف البير وغطاه، هلا، بحياة ربك انت شايف انو ممكن تصير إلنا دولة
- والله انا بفضل نعلنها ولو في حارة بني دار
- إعلنها وحدك.          
- طيب فهمني، طلعتها من راسي. ليش ما أعلنوها غصبن عن دين إسرائيل
- اسمع وافهم، أولا راحوا لمجلس الأمن، والمجلس رفض قصة ها الدولة، وفرطت.
- طيب ليش ما أعلنوها غصبن عن دين مجلس الأمن
- ما بقدروش، بيقطعوا عنهم المساعدات
- بلا منها ها المساعدات... بلاش السيارات والمقرات والحفلات والسفريات والمؤتمرات والندوات والخيلات بس يعتمدوا على الشعب، بتصير دولة
- يا أبو معروف، الله يمسيك بالخير، هادول الجماعة عمرهم ما آمنوا بالشعب.
- ليش عملوا هالزيطة إذا ما بدهمش يعلنوها؟
- بيضحكوا  عليك وعلي وعلى جميع الناس.
- معقول!
- معقول ونص. لأنو المنطقة (ج) بتشكل 62 بالمائة من مساحة الضفة الغربية المحتلة 
- صح
-أيوه صح... يعني بضل 38 بالمائة، بتكفينا نعمل فيها دولة
- اصحا يا بهيم، عشرة بالمائة من الضفة محميات طبيعية بإيد إسرائيل.
- يعني بضل 28 بالمائة، بناخذها وبعدين بنطالب بغيرها
- تنساش المناطق العسكرية المغلقة
- فهمت، يعني أديش بضل بعد ها الخصميات؟
- اخصم الطرق الالتفافية
- أديش نخصم؟
- شو بدك تخصم لتخصم والجدار حط في بطنو أراضي كتير والحواجز العسكرية والمستوطنات وكمان إسرائيل دمرت 45 حوض مائي ومنشأة مائية.
- يعني ما ضلش إشي.
-والمستوطنين وين بدهم يروحوا فيهم؟
- ما حدا عارف
- والقدس؟
-راحت عليها السلام وانتهى أمرها.
- طيب يعني والانجازات اللي بتكلموا عنها؟
- ضحكتني شو بتحكي انجازات، وين هي الانجازات، يا أبو معروف؟ إحنا بدنا نضل نضحك عا حالنا
- والاستحقاقات شو صار فيها؟
- شو بتقصد؟
- أنا مرة سمعت أنو في هناك استحقاقات من وقت مؤتمر أنابوليس.
- أنابوليس، آه، جماعتنا ما أخدوش إشي
- واستحقاقات أيلول؟
- بردو ما أخدوش إشي، ومر أيلول بدون استحقاقات ولا إنجازات وما أخدوش حتى ولا ربع دولة
- طيب والمفاوضات الاستكشافية؟
- فشلت من أول يوم
- الحق مش عليهم
-  شو قصدك، بدك تبريهم يا أبا معروف.
- لا، مش قصة أبريهم، القصة إنو ليش الشعب بستنا. وشو بستنا؟
- الحقيقة أنا مش عارف.
- يعني الشعب خايف ولا مسطول
- أنا بفكر أنو الشعب مسطول وخايف..
- طيب شو نعمل يا زلمة؟
- مش عارف
- يا الله نبيعها
- أي شو ضل فيها حتى نبيعها
- لما سيارتك بتخرب بتبيعها خردة..
- مزبوط، شو بدها تجيب فكرك يا أبو معروف؟
- أي إشي منيح...
-شو صار بعقلك يا أبو معروف. عمرها ما صارت دولة بتنباع خرده.
- لا صارت ونص. هيها صارت معنا.
- مين بيشتريها؟
- أي واحد. إن شاء الله زطو عويني.
- يعني بتبيع الوطن، يا أبو معروف. ما كنت إنت أبو الوطنية. حكموك مؤبد، وطلعت بالتبادل.
- طب شو أسوي؟ هاي الإعلان جاهز. اللي بدو يشتري، يشتري، أنا حر. أنا بدي أبيع حصتي. خالي شهيد، وابني جريح، وبيتي مهدوم، وأخوي مأسور، أنا مفلس، مبارح في الليل، الشرطي القواد. خالفني.. قال إنت سكران. اخذني للمركز، شرطة الآداب دبحوني ضرب. ليش أنت سكران؟ بس أنا دبرتهم. قلتهم انتوا السكرانين وانا الصاحي. صح ولا لا...
-صح.
- خالي الشهيد خلف عشر ولاد. عيلتو كبيرة. من يطعمها؟ أبني طلع من المدرسة، راح يضرب حجار. إجتلو رصاصة بعينو. راحت عينو. الاسبوع الماضي، رحت عا الوكالة، أعطوني كيس طحين مسوس. قلت للمرة: شو نسوي بالطحين المسوس. قالت: منقيم السوس منو، وناكلو. يعني علشان الطحين ببلاش، لازم يكون الطحين مسوس. مبارح، رحت عا الوكالة وطلبت يعطوني خيمة... قالو ارجع بعدين. وين أروح؟ ولادي وين يروحوا؟ يعني فكرت أنو ادبر شقفة سلاح، واروح أطخ.
- الله يخرب بيتك، بدك تودي حالك بداهية
- أي شو ها الحال، اللي أنا فيها، إذا طخيت بفش غلي
- تطخ مين يا أبو معروف؟
-أي واحد. وزير ولا وكيل وزارة ولا واحد يهودي. المهم أطخ.
- عندك باروده؟
-لا.. فكرت أسرق باروده ابن خالتي
- تسرق بارودة ابن خالتك، بدك ترميه بالحبوس؟
- بعدين فكرت. إجاني العقل وقلت شو راح استفيد. يمكن أنطخ. قلت ببيع ها الدولة خردة.
-والله حليتها يا عبقري، وين بدك تنشر الاعلان؟
- مش عارف. وانت بدكش تبيع؟
-إذا بعت انت، أنا راح ابيع. ما خلص خربت عا الآخر.. لما نبيع، شو راح نشتري، يا أبو معروف.
– قنينة. إنت أبو الفهم. قنينة. قنينة. قنينة.
بدأ المحقق وصديقه يرقصان، بعنف ويقومان بحركات بهلوانية، فتصبب عرقهما وأنهكهما التعب، فارتميا على الأرض
- شو رأيك ننشر الاعلان في الجريدة الرسمية.
- شو، إنت غبي. مش راح ينشروه. راح يقولوا: انتو خون.
- ننشره في الانترنيت. يمكن أمريكا تقرا الاعلان. أو فرنسا، أو بريطانيا أو أي دولة
- افترض أنو أمريكا أو حتى إسرائيل قرءوا الإعلان، طب ليش يشتروها.
- أنا عارف والله كل إشي مسكر الطخ دمار، والبيع ما فش بيع. شو نسوي. (مرت لحظات صمت)
وضع أبو معروف يده على جبينه، وصاح: وجدتها، وجدتها
- أيوه يا أرخميدس: شو وجدت؟
- نبيع أي إشي تاني.
-زي إيش يا أبو معروف.
-الكعبة.
- يخرب عقلك. هادا انت مستعد تبيع كل اشي. تخنتها كتير. الكعبة لا. خلينا على الدولة. اكتب الإعلان يا أبو معروف.
-اتفقنا.
بدأ أبو معروف يكتب نص إعلان بيع الدولة:
معروض للبيع دولة محاصرة ومقسمه، لها رئيس وحكومة فاشلة وأجهزة أمنية متناحرة وعلم ، ومجلس تشريعي لا يعمل، وقضاء بلا قانون ولا ضمير، وصحافة كذابة، ووزارات ناخرة، ومؤسسات متهاوية، ومجتمع مدني معظمه منافق، وحركات دينية ووطنية متنازعة ينخرها فساد سياسي ومالي، وشعب فاقد لوعيه. دولة فيها مستوطنات، وحواجز وجدران وأنفاق، دولة تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية.
-شو ها الاعلان الفاشل. يا أبو معروف. ولا حدا راح يشتريها. اكتب دولة ناشئة، احتمال نستخرج منها غاز طبيعي، وفيها بحر كبير وشطئان رملية وسيعة، منبني فيها منتجعات سياحية. اكتب يا ابو معروف. دولة فيها فنادق خمس نجوم، ومسموح معاقرة الخمر، وتعري النساء والرجال على شاطئ البحر. اكتب يا أبو معروف. دولة فيها كازينو، راح يشتغل ويجيب ملايين.. دولة أمن وأمان وحرية للمواطن.
-شو بدك إياني اكذب..
- شو فيها إذا قلنا:دولة قانون ومؤسسات، للبيع، دولة ذات سيادة وقابلة للحياة للبيع، دولة ترفض الاحتلال ولا تخضع للاملاءات... ويقودها ...
- كمل يا محقق. ليش وقفت. من يقودها؟
-مش عارف شو  أقول، يا أبو معروف.
-أنا راح أكمل. ويقودها الأصلع، والأبرص والأطرش والأعمى  والحرامي والقاتل ومخزوق الضمير.
دولة.. ما بديش أكتر كلام اكتر. يعني أنا بعمل رقابة ذاتية على حالي، بس ما نكتب كلام لحس. عيب . تقول دولة قانون! وين القانون! وين تطبيق القانون! وين العدالة! إحنا منحترم حالنا، بدناش نلحس..
- اللي بدو يبيع، لازم يلحس. واللحس مدفوع الثمن، منصب أمني، أو معاش شهري من تحت الطاولة، أو حتى منصب في الحكومة، أو منظمة تؤيد حقوق الإنسان، والديمقراطية، بس بتلحس....(الكلمة محذوفة) اللي بيدفع أكتر.
- يعني خالي استشهد. بيتي انهدم، ابني راحت عينو .. بدك إياني ألحس.
-علشان تاكل.. لازم تلحس. فش حل تاني. يا ابو معروف.
- أنا مش فاهمك. أنت صديقي. بتكتب مشاريع للديمقراطية. كم مليون انصرفت علشان ها الديمقراطية. وكم أخو ... (عدة كلمات محذوفة) راح يتكلم ويكتب باسم ها الشعب، بعدين بيقول: عندو مجلس أمنا، وعلاقتو مع الدونرز مباشرة. وعندو شفافية سرية: قال شفافية سرية. الناس بطلت تستحي. السرقة صارت مكشوفة، والشفافية سرية. شو ها الكلام الزبالة. الأهم من الدولة والديمقراطية والحريات، وأمن المواطن، وكرامته، وشعارات التنمية،والإصلاح، والقضاء المستقل، هو أمن إسرائيل، وعلى الجميع الالتزام بهذه المسألة.
- أبو معروف. حط عقلك براسك. واكذب، اكذب واكذب.
- الله يلعن هيك... يعني أكذب عا حالي؟
- اكذب واستغفر ربك، الضرورات تبيح المحظورات. فكر مليح يا أبو معروف. يعني شو فيها لو كذبنا. وقلنا ديمقراطيتنا أحسن من ديمقراطية دولة السويد. والأمن عنا أحسن من الأمن في نيويورك وتل أبيب، هو إعلان بدنا نربح مصاري. اكذب. خلص اكذب وتوكل على الله.
-والله مش عارف، بدي اضحك ولا أبكي دم.
- لا تضحك ولا تبكي. اكذب. هو إعلان بسيط. الكذابين في العالم كتار، راح يقولوا: هادا كذاب متلنا، خلينا ندعمه. قول أنها دولة أمن وأمان.
- الله يخرب بيتك. خلصت القنينة. هات غيرها.




[1] (حارة بني دار حي صغير، يقع بالقرب من الحرم الإبراهيمي في البلدة القديمة بني في عهد المماليك، أغلقت إسرائيل منفذه الرئيسي، والبلدة القديمة التي يعيش فيها عدة مئات من المستوطنين تخضع للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، وقد هجرها معظم المواطنين إلى الأحياء الأخرى. وأغلقت معظم المحال التجارية، واحتل المستوطنون سوق الخضار المركزي. وتحولت البلدة القديمة إلى مدينة أشباح حيث يتجول فيها الجنود والمستوطنون).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق