تحقيقاتٌ تُرهِبُ السلطانَ ولا تَرْهَبُهُ

تهافت سماسرة الأراضي والوطن

11‏/09‏/2012

ماذا يحدث لو أشعل أبو مازن النار في جسمه كالبوعزيزي؟


تحاصر الأزمات المستعصية على الحل الرئيس محمود عباس أبو مازن من كل حدب وصوب، هناك أزمة في كل شيء: المصاعب الاقتصادية على رأسها، الانقسام بين غزة ورام الله، أزمة تمثيل الفلسطينيين في المحافل الدولية، أزمة الانتخابات الرئاسية والتشريعية، انسداد الأفق السياسي، الذهاب إلى الأمم المتحدة، تخلف المواطنين عن دفع الضرائب، أزمة غلاء الاسعار، أزمة البترول والغاز والسولار، أزمة الرواتب، أزمة استخدام الأراضي الفلسطينية للنفايات الكيماوية المهربة من إسرائيل، المظاهرات الشعبية الاحتجاجية، أزمات الفلسطينيين في الشتات، تمدد الاستيطان، هجمات المستوطنين على المواطينن
والممتلكات والمحاصيل الزراعية، أزمات من كل نوع وصنف بالجملة وبالمفرق.     
باختصار لا يملك الرجل حلولا لها، وهو مع ذلك لن يقوم بإشعال النار في جسمه، كما فعل البوعزيزي،  فالرجل لم يصبه اليأس والاحباط الذي أصاب البوعزيزي، لأن المصاعب الاقتصادية التي أصابت ملايين  الفلسطينيين لم تؤثر عليه شخصيا. 
 إنه يجلس على قمة هرم النظام السياسي الفلسطيني. والوضع عندو "خووش بووش"، على الأقل في الجانب الشخصي، لا أعتقد أن راتبه لا يتجاوز الألف دولار، وما دام أن راتبه الذي لا نعلم كم مقداره يكفيه ثم يفيض 100 دولار توزع باسمه على بعض العائلات الفلسطينية المسحوقة في مخيمات اللاجئين في لبنان في شهر رمضان، ويصورها ماهر شلبي للتلفزيون الرسمي ، يفيض جيبه أو  ينقط في صندوق مساعدة الطلبة الفلسطينين. يفيض جيبه وينقط في صندوق مساعدات العائلات المسحوقة.
 اكتشفت بعد ذلك أن الفيضان أو التنقيط لم يكن من جيب الرئيس – نحن لا نعلم كم من القروش القليلة في جيبه- بل من اقتطاعات شهرية من معاشات موظفي الدولة الغلابة. الذمة المالية في السلطة الفلسطينية مخزوقة، فلا يعلم أحد عن هبش المسئولين الكبار، أما الغلابة فتتأخر رواتبهم الضئيلة كل شهر تقريبا، فإن وصلتهم تتبخر بسرعة بدرجة غليان الديون للخباز والخدرجي.  
على أي حال، توهجت في عقلي فكرة أن يقوم الرئيس بإشعال النار في جسمه كالبوعزيزي ، بعد حضوري مؤتمر الرئيس الصحفي في قاعة الاجتماعات في المقاطعة برام الله يوم السبت الماضي الموافق  الثامن من سبتمبر 2012.
أنا الآن في الطريق إلى المقاطعة لحضور المؤتمر الصحفي.  
"قف"،  خاطبني أحد رجال الحرس الرئاسي، عندما هممت بالدخول إلى قاعة الاجتماعات. تسمرت في مكاني، وقام الحارس بتفتيشي، قبل أن أدلف عبر البوابة المؤدية إلى القاعة، في مقر المقاطعة برام الله. 
جلست في الصفوف الخلفية بعيدا عن الأضواء، استغرق المؤتمر وقتا  لا بأس فيه، وكان في بعض جوانبة مملا،  وهزليا، فقد سخر الرئيس من أسئلة الصحافيين ونفاقهم، والمواضيع التي تطرق إليها كثيرة، وإجاباته غير شافية، خصوصا في مسألة التنسيق الأمني، وكيفية التعامل مع الحراك الشعبي والمطالب الشعبية، انصب جل اهتمامي على معرفة كيف سيتعامل الرئيس مع احتجاجات الشعب ومطالبهم، وهل يستجيب إليها أو إلى جزء منها؟  
"على فكرة لدي أخبار غير جيدة، بشرى غير جيدة، لا أحب أن أقولها بخصوص الراتب، ليس لدينا مال لنعطي كل الراتب. سنصرف جزءا من الراتب فقط عن شهر آب الماضي" قال الرئيس مخاطبا جمهرة الصحافيين. 
وعلاجه للمطالب الشعبية مثل تخفيض أسعار السولار والبترول والغاز وغلاء السلع تمثل في الوعد بعرضها على الحكومة لدراستها، واتخاذ قرار بشأنها، مشيرا إلى أن السلطة لا يمكنها أن تنفق أكثر مما تجمع من عوائد  جمركية وضرائب ، لائما بلطف ودون ذكر اسماء الدول العربية التي تقاعست أو رفضت دفع مستحقات مالية للسلطة الفلسطينية كانت قد التزمت بدفعها في مؤتمرات قمة عربية سابقة.  

قال لنا الرئيس أن شبكة الأمان العربية المتمثلة بـ 100 مليون دولار شهريا  لم تكن إلا حبرا على ورق. لا شك أن السلطة تعاني مازق خازوقي. خرجت من القاعة بأعصاب محطمة، ماذا سأكتب؟ لم يكن الرئيس صريحا، لا أريد أن أكتب ما سمعت، فقلمي ليس ناسخا لأفكار لم أتحقق منها، ماذا يدور في ذهن الرئيس؟ كيف سيتمكن من الخروج من عنق الزجاجة؟ هل التوجه إلى الأمم المتحدة والحصول على عضوية  دولة فلسطينية تحت الاحتلال سيحل المشكلة؟ 
دولة بحدودها عام 1967 شاملة القدس والبحر الميت  ونهر الأردن، تحررها عضوية منقوصة في الأمم المتحدة. قد يبدو الأمر جيدا، ولكن ، كيف يمكن للدولة العبرية أن تقوم بإزالة المستوطنات والجدار والمعسكرات والطرقات الالتفافية  والقدس المحاصرة وتقدمه لنا على طبق من حديد. هذا لن يحدث دون مقاومة، وحتى الحصول على عضوية دولة تحت الإحتلال قد تواجه الفيتو الأمريكي ، وقرار الجمعية العامة غير ملزم لإسرائيل. 
ما يقوم به الرئيس هو هروب، والشعب يريد حلولا عملية. 
تناوشتني أفكار كثيرة، وفكرت في الأزمات التي تواجهها السلطة الفلسطينية، أحسست بتعاطف مع هذا الرجل الذي يواجه هذا الكم الهائل من الأزمات ، كل أزمة أضخم من جبل أُحد، وددت لو استطعت أُن أساعده بحمل أزمة على كتفي، سأكون كالحمار الذي يحمل أثقاله، والرئيس يريد أن يترك الجمل بما حمل ويتوجه إلى الأمم المتحدة. إنه يضيع وقته ووقتنا. 
يجب أن أتحمل مسؤوليتي كمواطن فلسطيني، صحيح أنني لم أنتخبه، لكنه في نهاية المطاف أو بدايته رئيسي، ولا بد أن أحترم إرادة الشعب في انتخابه، رغم تجاوزه لفترة  الانتخابات المحددة بسنوات أربع، فهو رئيس بالأونطة, ولكن، لا بأس من مخالفة قانون الانتخابات وانتهاك حرمته، فالظرف عصيب، والأمر جلل، خصوصا، بعد قيام المناوئين من حركة حماس بالإنقلاب على الشرعية وعلينا رغم الفرقة والتنابز بالألقاب أن نجتمع على كلمة واحدة، ولا نتفرق أيدي سبأ، فإن احجمت عن مساعدته، يتعين عليّ أن أنصحه.
انتظروا... نحن لا نعيش في زمن الخطابة البلاغية.  الكلمات لها معنى محدد، والعقل هو هادينا.  
 كتبت حوارا متخيلا بيني وبين الرئيس. تخيلت أنني طلبت منه اجتماعا منفردا لخمس أو عشر دقائق، بعد المؤتمر الصحفي، لأعبر له عن مكنونات نفسي، وما يجول في خاطري، فوافق مشكورا.
قلت له: يا رئيسنا، يا حبيبنا، كيف ستواجه هذه الأزمات ؟
أجابني: سمعت جوابي، لقد طلبت من الحكومة أن تجتمع وتدرس مطالب الشعب وتأتيني بالحلول فأصادق عليها.  
اقترحت عليه اقتراحا بصيغة سؤال: هل ستقوم بتفكيك السلطة الفلسطينية، وإلقاء أعبائها على كاهل الاحتلال؟ 
رد باقتضاب بأنه سيبقى صامدا بالمقاطعة ولن يرحل، ليغيظ الإسرائيليين لأنهم يريدونه أن يرحل.  كان يردد نفس العبارات التي قالها في المؤتمر الصحافي. 
وتقديرا للشجاعة التي أبداها تجاه الرغبة بإغاظة الإسرائيليين، تجرأت على إلقاء رزمة ديناميت في أعماقه، وقلت مقترحا:لو كنت مكانك، لافتديت شعبي وفعلت فعلة البوعزيزي وأشعلت النار في جسمي.
صمت الرئيس مصعوقا. لم يكن يتوقع أن أقول ما قلت. واعتبر كلامي مزحة ثقيلة، لكنه مرقها، وانتظر مني أن أعتذر ، وأتحدث معه بجدية. لم أعتذر.
فقال متضاحكا: أقبلها منك.
قلت غير مبال بانصعاقه: إن فعلت ذلك يا سيادة الرئيس، سيسجل التاريخ بأنك ثاني رئيس شهيد في دولة فلسطين العتيدة، بل أول رئيس شهيد تختار الشهادة بإرادتك، وتشعل النار في جسمك، فيخرج الشعب إلى الشوارع منددا بإسرائيل، وملقيا مسؤولية استشهادك على عاتقها، وتقضي شهيدا وتنعم بجنات الخلد .
قال محاولا أن يعيدني إلى رشدي: أنت مجنون، أتريدني أن أكون البوعزيزي الفلسطيني!
قلت: ستكون أشهر من البوعزيزي، وما البوعزيزي إلا شاب من عامة الناس، بينما أنت رئيس، وقد يحتذي بك الرؤساء والزعماء فيشعلون النار في أجسامهم. ويبقى لديك براءة الاختراع والسبق والريادة في هذا الأمر. 
بدأ ينفذ صبره مرددا "براءة الاختراع، السبق والريادة". ماذا تخرف؟ 
أمعنت في تعذيبه وقلت: تصور يا سيادة الرئيس أن بشار الأسد سيفعلها بعدك، عندها سيتوقف القتل والتدمير في سوريا. قلي بربك ألا تعتبر ذلك افتداءً للشعب! سيقول الناس لو لم يفعلها أبو مازن، لما فعلها بشار. وعندما يحتج الشعب الاردني على الملك والملكية المطلقة، سيخرج الملك إلى  شرفة قصره الملكي ويلقي خطابا تاريخيا قبل أن يشعل النار في جسمه ليفتدي شعبه الأردني. 
ماذا سيقول الملك عبدالله للشعب الاردني؟ هل سيلقي باللائمة على زوجه رانيا العبدالله لدورها السياسي ونفوذها ومراكز القوى التي أسستها لفائدتها في المملكة؟  هل سيخبر الأردنيين بأنها أنفقت أموالا كثيرة من أجل شهرتها في العالم، دون مراعاة للمصاعب الاقتصادية  في الأردن. إن فعل ذلك سينجو حتما من المقصلة. قرأ الملك التاريخ وهو يعرف أن الاردنيين قد يفعلون به مثلما فعل الفرنسيون بملكهم لويس السادس عشر  في القرن الثامن عشر الذي انقاد خلف أهواء زوجه ماري أنطوانيت. 

لكن الملك الحكيم قرر أن يستشهد افتداء لشعبه على طريقة استشهاد الرئيس أبو مازن الذي اعتمد طريقة الاستشهاد الثوري البوعزيزي. قلت للرئيس: تصور أن الملك عبدالله قام بإشعال النار في جسمه أمام الجماهير المحتشدة، اقتداءً بك، يا له من منظر مهيب. ستدخل التاريخ والجنة من أوسع الأبواب، وتجر خلفك كل أؤلئك الرؤساء الشهداء ، وقد غفر الله ذنوبكم كلها، ومحا من سجلاتكم الدنيوية المعاصي وجرائم السرقة والنهب والقتل وإفقار الشعب وتجويعه.  تفجر الغضب في عيني  الرئيس. وتحفز الحراس للقبض علي، منتظرين إشارة منه، لكنه حافظ على هدوئه. 
أمعنت في القول لإقناعه بفكرتي. قلت: تصور ، يا سيادة الرئيس إنك إن أشعلت النار في جسمك، وأنت رئيس، ولك احترامك بين الرؤساء، كرئيس مسالم ومحب للحياة، ستغضب أمريكا، أظن أن الرئيس باراك أوباما سيطلب من الكونغرس أن يصادق على قرار بمعاقبة إسرائيل، فيجتمع الكونغرس ويؤيد بالاجماع إطلاق يد الرئيس في عمل ما يراه مناسبا لمعاقبة الدولة العبرية، عندها سترسل الولايات المتحدة قاذفات البي 52 وتقصف إسرائيل، وترغمها على تفكيك المستوطنات ، فيتحقق هدفكم بعد استشهادكم خلال شهر أو شهرين، وبعدها يعلن خلفك، وأظنه مروان البرغوثي إقامة الدولة الفلسطينية ونكرمك ببناء صرح ومحراب ومسجد في ساحة المقاطعة تخليدا لك إلى جانب حبيبك الشهيد ياسر عرفات. 
لم يحتمل الرئيس أكثر من ذلك، خصوصا أنني ذكرت عدوين لدودين، ياسر عرفات الذي لا يزال يلاحقه حتى بعد اغتياله ومروان البرغوثي  الذي يقبع في السجن، بتهم قيادة مجموعات كتائب شهداء الأقصى الذين نفذوا عمليات عسكرية عديدة ضد إسرائيل. 
"كفاك هذرا يا هذا، إن لم ترتدع عن غيك، سألقيك في سجن مظلم وأجعلك عبرة لم يعتبر ولا يعتبر" قال الرئيس. أحاط حراسه بي كالسوار حول المعصم، وقد صوبوا فوهات بنادقهم إلى رأسي وصدري وظهري وقفاي.  
تشهدت، أحسست أن وضعي أصبح في خطر، وأنني قد أصبح  شهيدا في أي لحظة، سيزعم زبانية الرئيس أنني هاجمته بيدي ولساني، واعتديت على مقامه العالي، بيد أن الرئيس أشار على الحراس بأن يبتعدوا، ويتركوني، تهاويت إلى الأرض طالبا العفو مستغيثا بالرئيس من زبانيته وأيقنت أن رئيسنا لا يحب العنف ولا الاستشهاد لنفسه ولا لغيره. وهذه خصلة يحمد عليها، ألم يقف الرئيس جبلا شامخا وصخرا صلدا ضد عسكرة الانتفاضة الثانية، واستطاع أن ينهي هذه العسكرة، ولو لم يفعل ذلك، لازدادت أعداد الاستشهاديين من أبناء جلدتنا، وحل الدمار بشعبنا.
قال الرئيس: عد إلى بيتك، ولا تخبر أحدا بما حدث، فإن فعلت وأخبرت الجزيرة، سيكون حسابك عسيرا. 
في طريق عودتي إلى منزلي، دارت الأفكار برأسي: الرئيس يكره العنف والدمار، واستجاب الشعب له، فأوقف انتفاضته، مرغما عنه، بعد أن كثر التقتيل في صفوف المناضلين، وتوقف الشعب عن النضال، وألقي المناضلون أسلحتهم وسلموها إلى السلطة وإسرائيل ثم خلد وا إلى الراحة والهدوء، بعضهم نال وظائف في أجهزة السلطة، وبعضهم تعرض للملاحقة من قبل إسرائيل. اسرائيل تقول للرئيس : أوقف الأرهاب وتفاوض معنا، فعل الرئيس ونفذ، وأشاد بإنجازاته الجنرال الأمريكي كيث دايتون، وأشاد بها أيضا كبار قادة الجيش الإسرائيلي، ولكنه لم يحصل على شيء. 
كان المشهد تكرارا لما حدث عامي 1996 و 1997، عندما تمكن الرئيس الراحل عرفات من وقف العمليات الاستشهادية، باطشا بمناضلي حركةة حماس، متوقعا أن ينال رضى إسرائيل مع نهاية الفترة الانتقالية فيحصل على دولة، ولكن آماله انهارت، ولم  يحصل على شيء. 
الرئيس أبو مازن كرر التجربة الخاطئة، وتبنى الدعاية الإسرائيلية، وصدق أن المشكلة تكمن في "الإرهاب" الفلسطيني، فماذا حدث؟ احتجت السلطة على المفاوضات العبثية، في ظل استمرار بناء المستوطنات، وطالبت إسرائيل بوقفه، ولكن الأخيرة رفضت الاستجابة  فردت السلطة بإيقاف المفاوضات ، ولم يتحرك الوضع إلى الأمام، فلم تستطع السلطة أن تحرر نفسها من قيود التنسيق الأمني المكبل. 
الصورة لا شك قاتمة ومؤلمة، أبو مازن يعترف بحجم الأزمة، لكنه يخشى أن يفعل ما فعله عرفات عندما أباح للشعب أن يقاوم، أبو مازن يخشى الرد الإسرائيلي، وتصريحاته الدونكيشوتية ضد إسرائيل وزعمائها ليست أكثر من كلام هراء، في الحقيقة سيجد أبو مازن نفسه قريبا بين سندان الحراك الشعبي ومطرقة إسرائيل، وهو يحصد ثمار سياسة إسرائيلية لا تريد للفلسطينيين أن يؤسسوا لأنفسهم دولة فلسطينية تنتزع صلاحياتها من إسرائيل انتزاعا، وهو يجني أيضا ثمار سياسته في وضع جميع البيض في السلة الإسرائيلية.   
وقف التنسيق الأمني في نظر إسرائيل معناه العودة إلى الحقبة العرفاتيه، عندما تعاملت إسرائيل مع السلطة ككيان معاد. ولا يستطيع أبو مازن أن يتحدى إسرائيل. ولو تمرجل  وأمر قادة الأجهزة الأمنية والضباط وضباط الصف من مختلف الرتب بأن يوقفوا التنسيق الأمني، ستتمرد عليه الأجهزة الأمنية الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، حيث جرى فك ارتباطها عن الجناح العرفاتي. كان التنسيق الأمني في زمن عرفات أفقيا، وأضحى في زمن أبو مازن رأسيا وعموديا فتحولت الأجهزة الأمنية إلى أدوات مسيطر عليها إسرائيليا.  وتلك إحدى الخطيئات الكبرى التي ارتكبها أبو مازن. 
استنتجت أن عربة السلطة الفلسطينية لا تسافر على طريق معبدة لتصل إلى هدفها المنشود – إقامة الدولة الفلسطينية في حدود عام 1967 ، فتخرج السلطة من مأزقها متفادية السقوط في المنزلق. انزلقت السلطة وانزلق معها شعبها، وبما أنني مواطن صالح، انزلقت أيضا مع المنزلقين. نحن الآن جميعا في المنزلق في حيص بيص. وأفضل شيء نفعله هو أن نشتم وندين التعنت الاسرائيلي، هذا كل شيء، كل شيء. 
أن الرئيس لا يحوز على  أية ورقة ضغط  يستخدمها ضد إسرائيل، وليس أمامه سوى الجلوس أمام أركيله والترقب، منتظرا ملاكا رحيما يهبط عليه بمعجزة من السماء تنقذه مما هو فيه. وبدأت أقرأ وثائق أوسلو لعلي أعثر فيها على السبب الرئيس  المفجر لهذه الأزمات. واستنتجت أن السلطة لم تحسن حياكة اتفاق  أوسلو حسب المقاس الفلسطيني، أو أن اسرائيل رفضت أية حياكة أو تفصيل لا تلائم مقاسها، والأقوى هو الذي يملي ارادته على الطرف الأضعف، رغم أن الطرف الأضعف يستطيع أن يقول لا. 
كان ياسر عرفات رحمه الله في بداية التسعينات من القرن الماضي في وضع حرج لم يسمح له برفض اتفاق أوسلو ، كان محاصرا ومعزولا ومنبوذا من قبل الدول العربية إثر حرب الخليج الأولى، ما سهل على إسرائيل القيام بابتزازه، فأوقعته  في شباكها فحولت سلطته إلى كيان خشبي تلهو به حينا وتحاصره أحيانا، وتميته وتحييه إن شاءت.  فأصيب هذا الكيان الفلسطيني بالشلل التام وعجز عن إيجاد  حلول ناجعة لـ أزماته السياسية والمالية والأمنية المتلاحقة. 
بدأت المظاهرات والاعتصامات في بعض المدن في الضفة الغربية. لم أشارك في الاحتجاجات، لأنني أشغلت نفسي بجمع تصريحات الرئيس المناهضة لنتنياهو. وجدت أن رئيسنا قصفه بإدانة مزلزلة، وسمعته يقرأ سورة الزلزلة، فبسلمت وحوقلت وتقلقلت وأيقنت أن النصر قريب.   
يعلم أبو مازن أن سيناريو التخلص من عرفات سيتكرر، إن سلك سبيل المواجهة الحقيقية مع إسرائيل، ليطمئن فهو ليس عرفات، وإسرائيل لن تكرر سيناريو الاغتيال، ولكن إن سار أبو مازن على نهج عرفات القديم، ستتم إزالته، وهذا افتراض لن يحدث فأبو مازن قد أعلن مرارا أنه ضد استخدام السلاح وقد نجحت السلطة في إنهاء المقاومة وجمع أسلحة المقاومين وزج من بقي منهم حيا في السجون. 
هنا أحلل الوضع الراهن، بعد ظهور إشارات مهمة على بدء حراك فلسطيني شبيه بحراك الربيع العربي، ولكنه لا يزال حراكا خجولا في مهده، حراكا يطالب بفتح الاتفاقية الاقتصادية بين إسرائيل والسلطة الموقعة عليه في باريس، على أمل أن يتم تعديلها لصالح الشعب الفلسطيني الذي تضرر كثيرا من القيود الاقتصادية المفروضة عليه
لا زالت الأمور ضبابية، فلا نعرف أي وجهة يمشي إليها الحراك الشعبي وما هي نتائجه وكيف ستتعامل السلطة معه؟ وما هو موقف إسرائيل منه؟ وكيف ستتصرف وهل تمشي الأمور باتجاه الوصول إلى وضع يرغم السلطة على التحالف مع اسرائيل لقمع المتظاهرين؟ 
أسئلة كثيرة قد نجد أجوبه عليها إن استمر الحراك وتصاعد. ولو مات الحراك في مهده، فالأزمة مؤهلة لكي تنفجرمرة أخرى وأخرى، وفي كل مرة يكون الانفجار أعنف من سابقه. سؤال مهم يتعين علينا أن نسأله: لماذا وصلت السلطة إلى هذا المنزلق، وأضحت أداة أمنية بيد إسرائيل، وسلطة خائبة في كل شيء تقريبا؟ 
كان الشلل في النظام السياسي الفلسطيني قديما وواضحا ومرئيا ، والازمة مستفحلة ولها أبعاد كثيرة، ولم ينجم عن اتفاق أوسلو . ولم يلحظه الناس في غمرة النشوة الشعبية والآمال والتوقعات الكبيرة المعقودة على الاتفاق، وفي غمرة الحماسة الدولية لإنجاز صلح تاريخي بين اسرائيل والفلسطينيين.  
إن نظرة عميقة إلى تاريخ علاقة منظمة التحرير بالنظام العربي المفكك والمترنح بأزماته المزمنة، تؤكد أن المنظمة وسلطتها  نتاج من نتاجاته. وهي في وضعها الحالي ليست أفضل من وضع أي نظام عربي مأزوم، بل هي صورة مصغرة عنه، لذلك لا بد لنا حتى نحلل طبيعة مأزق السلطة أن نقوم بتشريح نقدي للأزمة المزمنة أو الأزمات المزمنة في العالم العربي. 
وتتمثل علة السلطة في عدم استجابتها أو عدم قدرتها على الاستجابة للتحديات، أضحت السلطة جسما ميتا فقد حيويته، وقدرته على التفاعل مع الأزمات بصورة إيجابية، فقرارها السياسي والاقتصادي والأمني ليس بيدها، وأكبر مثل على هذه الأزمة انسداد الأفق السياسي. 
هذا التحليل لم يدخلنا بعد إلى أعماق أزمة السلطة الفلسطينية والتي هي في جوهرها أزمة العالم العربي العاجز، وأزمة الضعف المجتمعي وأزمة الأحزاب الحاضرة الغائبة، وازمة غياب النقاد من كل صنف وفي كل مجالات الحياة. أدى كل ذلك إلى غياب النقد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري والفكري والديني والفني منذ هزيمة حزيران عام 1967. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق